من يقدس الماضي والتاريخ، نحن ام اوربا؟

سليم مطر ـ جنيف

ـ الاوربيون هم الذين ابدعوا وطوروا علوم الماضي:

التاريخ واللاهوت والتقاليد والفلكلور والتراث والآثار والسيرة..

ـ هم الذين اكتشفوا آثارنا وماضينا وكتبوا معظم تاريخنا!

ـ في غالبية مدن اوربا، هنالك متاحف لتاريخ المنطقة وتراثها.

ـ جبروت الحداثة الاوربية نابع من تقديسها لماضيها وتاريخها!

ـ دون معرفة التاريخ وتنقيبه وتدريسه ونشره، يستحيل نشوء جذور عميقة للهوية والانتماء للوطن. فدون الانتماء للماضي يستحيل الانتماء للحاضر وللمستقبل.

1

     كثير ما نسمع من ابناء شعوب العالم العربي، وخصوصا من اهل الحداثة والتقدم:

ـ نحن العرب من اكثر المتمسكين بالماضي والتاريخ. اما الأوربيون فقد تجاوزوا التاريخ والدين والتراث والتقاليد وبقية الخزعبلات الماضوية العتيقة، وهم يقدسون المستقبل والعلوم والتكنولوجيا وكل ما هو حديث ومستقبلي!

لكن من يعيش في أوربا، يكتشف مدى خطأ هذا الادعاء . بالحقيقة ان الحضارة الأوربية الحديثة ما قامت إلّا على اساس استعادة الماضي الحضاري (اليوناني والروماني). ان قوة امم اوربا ثقافيا ومعنويا نابعة من دراستهم وتفاخرهم واستيعابهم لتاريخهم وتراثهم، والاعلاء من شأن هوياتهم الوطنية الخاصة بكل أمة أوربية.

يكفينا للتدليل على هذا أن نذكر:

أولاـ ان النهضة الاوربية في القرن السادس عشر، والخروج من ظلامية العصور الوسطى، بدأت باكتشاف الحضارتين الرومانية واليونانية. وعن طريق الكتب العربية تعرفوا الى الفلسفة والعلوم الاغريقية. ولهذا فان الفنون والآداب الاوربية مليئة بالرموز والاسماء اليونانية والرومانية. حتى الآن فان دراسة اللغتين اللاتينية واليونانية شبه اجبارية.

ثانياـ الأوربيون أول من طور وأبدع دراسة التاريخ، وأطلقوا عليه "علم التاريخ Science de l'histoire. بل هم الذين علموا الشعوب الأخرى كيفية دراسة التاريخ وتمحيصه ومناقشته ومراجعته والخلاف في تفاصيله. مثلا، في فرنسا هنالك عشرات المجلات الشعبية المصورة الخاصة بالتاريخ. وهنالك دور نشر كاملة متخصصة بالتاريخ، وتصدر يوميا عدة كتب، بالاضافة الى المؤتمرات والأطروحات العجيبة عن تفاصيل التاريخ من دين وسياسة وحضارة وثقافة وجنس وطبخ وفن وأدب وتقاليد، بل هنالك تاريخ جديد اسمه: تاريخ الحيوانات"! فعندهم من الطبيعي ان يصدر كتاب عنوان"تاريخ غرفة النوم في فرنسا"! وهنالك كم هائل من الافلام السينمائية والتلفزيونية والبرامج الخاصة بالتاريخ.

ثالثاـ الأوربيون أول من أبدع في دراسة الآثار القديمة وأطلقوا عليه علم "الأركيولوجيا Archéologie "، وبلغ بهم التخصص والتوسع أنهم هم الذين اكتشفوا آثار غالبية الحضارات المندرسة في العالم، مثل العراقية والمصرية. فلم يتركوا في بلادهم طللا ولا كنيسة ولا قصرا ولا حتى طابوقة، لم يدرسوه ويقدسوه ويجعلوا منه معلما سياحيا يزوره الآلاف من أنحاء العالم.

رابعا ــ الاوربيون هم الذي درسوا الاديان بصورة حديثة واشكالية. وفي غالبية جامعات اوربا هنالك كليات متخصصة بدراسة الاديان تحت اسم (مقارنة الاديان) و(اللاهوت Théologie)

خامسا ـ الأوربيون أول من أبدع وطور "علم التقاليد" أو ما أسموه بـ"علم الإنسان ـ الأنثروبولوجيا Anthropologie" الذي ركز لأسباب استعمارية واستعلائية، على دراسة تقاليد الشعوب "البدائية". أما تقاليدهم هم فقد خصصوا "الفولكلور" بحيث إنهم لم يتركوا قرية واحدة لم يعملوا الدراسات الجامعية عن تراثها وتقاليدها، في الزراعة والصيد والثياب والطبخ واللهجة والدين.

سادسا ـ الأوربيون أول من أبدع وطور "ثقافة المتاحف Muséologie" بحيث إن هنالك متاحف لكل مجالات الحياة، من التاريخ والثقافة والفنون والأثاث والشخصيات والآلات والسيارات والدراجات، ومجالات عجيبة لا تخطر على بال.

سابعاـ هم أول من أبدع بدراسة تاريخ وحياة شخصياتهم المعروفة في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والثقافية والدينية وغيرها أي(سيرة الشخصيات Biographie ). فكل عام تصدر كتب جديدة عن حياة العالم أو الشاعر أو الرسام فلان. فمثلا، كل عام تصدر في فرنسا وحدها عدة كتب عن حياة نابليون، كل واحد منها يدعي إكتشافا جديدا. ويمضي الباحثون عادة سنين طويلة يراجعون فيها كل الآثار والكتابات والرسائل المتعلقة بالشخصية المعنية، ويزورون جميع الأماكن التي عايشها، ويلتقون جميع الأشخاص الذين عرفوه أو حتى أبنائهم الذي سمعوا عنه من آبائهم!

بعد كل هذا لا  زال الكثيرون منا يرددون: نحن العرب من اكثر الشعوب التي تتمسكى بماضيها..

بينما نحن بالحقيقة من اكثر الشعوب التي تجهل ماضيها. بل تركنا ونترك الاوربيين يكتبون لنا جزءا كبيرا منه ويكشفون لنا آثاره المندرسة، مع تشويهات كثيرة تخدم مصالحهم.

نعم ان احتقار ماضينا وتاريخنا، يقينا لم يكن بريئا بل مدفوعا قصدا من قبل القوى العالمية التي نجحت بتحطيم "أممنا العربية"، نفسيا وإنسانيا بجعل الكثيرين منا يحتقرون هوياتهم الوطنية مع احتقار ماضيهم وجهل بتاريخهم.