أنا وهو، وسيدة المخابرات!

سليم مطر ـ جنيف

http://www.grrif.ch/Htdocs/Images/Pictures/6260.jpg?puid=fb520a46-d237-4d72-a593-d0690450d9e5

بعد معاناتي من أزمة نفسية طالت وتعرضت فيها لمختلف العلاجات والإقامة في عدة مشافي، هدأت حالتي وتركوني أرجع إلى شقتي التي أسكن فيها وحيدا. يبدو أن تسمية "أزمة نفسية" ليست كافية، بل تستحق تسمية "أزمة وجودية" تتمحور حول سؤال وحيد حيرني رغم سذاجته ولم أستطع الإجابة عنه:

ـ من أنا؟

المساعدة الاجتماعية وعدتني بإيجاد عمل مناسب لي بعد هذه العطالة الطويلة. هي سيدة في مقتبل العمر، حنونة وتعاملني بأمومة وعندما تبتسم يتحول وجهها الى صيني، ولا تلبس نظارات طبية.

ذات يوم أخبرتني أنها تلقت إعلانا خاصا من دائرة المخابرات تبحث عن جواسيس لمهمات خاصة جدا. بدا لي أنه عمل مناسب وغير متعب ويرضي فضولي الطبيعي لتقصي الألغاز وقصص المغامرات. وبما أني رسام، فإني أستطيع بسهولة أن أرسم لهم الأسرار. فقلت: لم لا أجرب حظي في هذه الشغلة؟

فعلا ساعدتني بكتابة طلبي وإرساله إلى العنوان المحدد في الإعلان. بعد بضعة أيام استلمت رسالة بموعد اختباري. اصطحبتني السيدة الحنونة بسيارتها، وتوقفنا عند بناية عادية، ثم دخلنا إلى شقة في الطابق الثاني. من الواضح أنه مكتب سري للمخابرات. استقبلتنا سيدة أنيقة وجميلة بنظارة بيضاء وأدب دبلوماسي. لا أدري لماذا ذكرتني بالأطباء الذين عالجوني، ربما لأن لها رائحة الملائكة وابتسامة الأشجار ووقار القطط، يعني امرأة عادية. ارتجفْتُ عندما ودَّعتْني المُسَاعِدةُ بابتسامتها الصينية وغادرت.

من الطبيعي أن جميع الأسئلة كانت حول تاريخي الشخصي وسبب رغبتي بمثل هذه الشغلة. بالحقيقة، كنت طيلة الوقت أصارع نفسي لكي أركز على كلامها؛ لأني كنت سرعان ما أطوف في رطوبة شفتيها وبياض أسنانها وتوهج نظارتها وخضرة عينيها، فأخشى من ابتلاعي ببحرها. فأنا عادة أفقد توازني وأصبح مجذوبا أمام العيون الخضراء الزرقاء وأبدأ بالتمطق لأني أحب العنب الأخضر.

جلب انتباهي أن أسئلتها كانت مختصرة وسريعة ولم تحثني على سرد التفاصيل، حتى بت مقتنعا أنها تقوم بمهمتها بصورة شكلية، لأنهم في كل الأحوال قد قرروا مسبقا أني لست مناسبا لشغلتهم. يقينا أنهم يبحثون عن جاسوس بابتسامة ساحرة وبدلة بيضاء مع نظارات سوداء وربطة عنق حمراء، يتقن استخدام المسدسات وتفجير القنابل الروحية.

فوجئت بتوقفها عن الكلام وهي تحدق بي بجدية وبنوع من التحدي كأنها تريد امتحاني، وخاطبتني بصوت مترقب ونظرات ثابتة شعاعها سخّن وجهي:

ـ ما رأيك لو كلفناك بالتجسس على هذه الشخصية الخطيرة جدا؟

ووضعت أمامي ملفا وهي مستمرة باجتياحي بطوفان أخضر.

بصورة تلقائية فتحت الملف الذي يحتوي على عشرات الأوراق. في الصفحة الأولى صدمت عندما رأيت صورة الشخصية الخطيرة. أنا أعرفه فهو يسكن في نفس الطابق من عمارتي، ونعرف بعضنا منذ سنوات وبيننا تواصل عابر عند تلاقينا. هو مثلي يسكن وحيدا وبه كثير من الشبه بي وربما مقاربا لعمري. الأوراق كلها كانت معلومات عن شخصيته وعن حياته وعلاقاته وأفكاره، وغيرها. ولم أفهم سبب خطورته، لكني خمنت أنهم يشكون به لأنه شخص اعتيادي أكثر من اللازم، وهذا يدل على أنه يخفي أمورا خطيرة.

من دون تفكير ضحكت لأداري حرجي وصدمتي. خشيت من رفع عيني نحوها لئلا تكتشف ارتباكي، رغم أنها تتوقع، بل يقينا تنتظر رفضي واحتجاجي. وهذا يفسر نظراتها المتحدية. خشيت من الرفض لئلا يشكوا بنزاهتي أنا أيضا.

وإذا بها تنطق بجملة تأكيدية، فيها كلمة ظلت ترن في رأسي وقتًا طويلا:

ـ هو.. هو .. شخصية خطيرة.. هو..

فتعالت في فضائي: (( هو.. هو .. هو ..))!

لا أدري كم من الزمن بقيت منكبا على الملف. في الحقيقة خلال ثلاثة أرباع الوقت لم أكن أقرأ لأني كنت ممزقا بين مشاعر جياشة متناقضة من حيرة وعار وإثم وخوف ومهانة وسخرية. ويصدح في صدري سؤال واحد وحيد مثل صرخة في نفق:

ـ بماذا أجيبها؟

لكن سؤالي راح بالتدريج يمتزج بصوت آخر:

ـ هو، نعم هو.. المطلوب مني أن أتجسس عليه هو هو.. لقد رأيت هذه الكلمة تتجسد أمامي بقامة عملاق من دخان تنبعث منه رائحة خبز محروق.

فقلت في نفسي: أنا لم أستطع أن أعرف "من أنا"، على الأقل سأعرف "من هو".

دون قرار وجدت نفسي أرفع رأسي وأنظر إلى نهديها ذي الحلمتين المبللتين بحليب خلف قيمص أبيض وسترة زرقاء، وأنا أقول:

ـ نعم أوافق. سأتجسس عليه.. هو..

هكذا تم الأمر. وقد وعدوني بمكافآت جزيلة حسب أهمية وكمية تقاريري عنه. وكانت مهمتي الأولى، أنهم أعطوني نسخة من ملفهم الرسمي الذي جمعوا فيه معلومات عنه خلال سنوات منذ أول شبابه، وطلبوا مني قائلين:

ـ أجهد ذاكرتك لملء الفراغات في المعلومات الناقصة عنه.. هو ...

ومنذ ذلك الوقت، حصل اتفاق غير معلن بأن هذه الشخصية الخطيرة اسمها: "هو".. كأني بتجنبي لذكر اسمه أتخلص من فكرة أني أعرفه وأخونه. هم أيضا يذكرونه باسم "هو".

* * *

بعد بضعة أشهر

منذ أشهر وأنا مستمر بإعطائهم تقارير كاملة عن حياة "هو" وعن نشاطاته. بل تعمدت، لكي تسهل مراقبته، إلى توطيد العلاقة معه، فأصبحنا صديقين حميمين. وكنت دائما أستغل مهنتي كرسام، لكي أرسم شخصه مع أشياء مختلفة في شقته التي قد تكون أسرارا مهمة.

ما زاد حماستي للعمل أنه يسمح لي بلقاء المسئولة الجميلة التي تجعلني أشعر بأنها حمامة سلام وأنا نسر مؤدب. يبدو أنها تشاركني نفس الإحساس، فكانت تقضي الوقت معي وتطرح علي الكثير من الأسئلة، ليس فقط عنه "هو" بل عني "أنا". هي محاورة مثقفة وطالما أدخلتني في حوارات فلسفية ونفسية وتاريخية عن موضوع "الذات والهوية" وكيف أن الإنسان وحده من بين جميع الكائنات قادر على أن يعي نفسه ويبحث عن ذاته؛ لأنه الوحيد القادر على المقارنة مع الآخر. كنت أطرح عليها أسئلة فلسفية محيرة، لا أدري لماذا تجلعها تضحك، مثل: إذا كان الديك، مثلا، لا يدرك ذاته وخصوصيته الديكية، فلم لا يقفز على غير الدجاجات؟ والنجوم هي الأخرى إن كانت تجهل نجوميتها، فلماذا توافق على الاشتعال وبعث الأنوار، وعندما تتعب وتيأس تنتحر مثل البشر بإلقاء نفسها في الثقوب السوداء؟

أما صاحبي "هو" فإني لكي أخفف عني وطأة مشاعر العار لخيانتي وتجسسي عليه، وجدت نفسي مضطرا كي أكشف له حقيقة عملي، بل رحت أطلعه على التقارير والرسوم التي أدونها عنه؛ ولكي أهدئه، اقترحت عليه أن نتقاسم المكافآت الجزيلة التي أقبضها من عملي. وبما أنه مثلي يمر بضائقة مالية فإن مقترحي قد أغراه ووافق على المشاركة بهذه اللعبة. لكني اشترطت عليه أن لا يتدخل بفحوى تقاريري ورسومي، لقاء أن أطلعه عليها قبل إرسالها. في بعض الأحيان كان لا يهتم بفحواها، وأحيانا يضحك، وفي أحيان كثيرة كان يغضب ويصرخ بوجهي، بل إني أحيانا تعرضت للضرب والجروح أثناء ثمالته.

اضطررت أن أخفي عنه أني وضعت كاميرات سرية في شقته مرتبطة بمركز مراقبتهم. وفي الحقيقة فقد ترددت كثيرا بقبول طلبهم هذا. قالوا: إن رسومي عنه لا تكفي. وبعد مفاوضات صعبة وافقوا على غلق الكاميرا التي في غرفة نومه عند منتصف الليل. كذلك في حال وجود زائرة لسريره.

كم تنتابني مشاعر إثم لأني كثيرا ما تمتعت طيلة هذه الفترة بمشاهدة الأفلام التي تصور "هو" وهو يعيش في شقته.

* * *

بعد أشهر أخرى

هذا اليوم أنا حزين ومبتهج في نفس الوقت. حزين لأن السيدة المسئولة ذات حلمات الأمومة وعيون البحر، أخبرتني بأنهم قرروا الاستغناء عن خدماتي لأن ذلك الـ"هو" لم يعد خطيرا ولا داعي لمراقبته. وكاد الأمر يصبح كارثيا لأني خشيت أن أفقد سبب لقائي بتلك المسئولة، فقد أدمنت رائحة الملائكة التي تنبعث منها. لكن المفاجأة المفرحة، أنها وافقت على أن تستمر حواراتنا خارج مكتبها كأصدقاء.

أما السبب الأعظم لفرحتي، وهو أن صاحبي "هو" لم يعد خطيرا ولست محتاجا لخيانته ومراقبته. بل الأكثر من هذا أن صداقتنا أصبحت من العمق والتفاهم حيث إننا قررنا الاتحاد التام في حياتينا، روحيا وبدنيا. والذي سهل الأمر علينا أن "هو" له نفس عمري ونفس ملامحي، ونفس تاريخي، أي باختصار له نفس هويتي، بل ويسكن في نفس شقتي وينام على نفس سريري ويشاركني حتى أحلامي، بل.. بل.. ياللهول، له نفس بدني؟!

لهذا اتفقنا على أن يلغي اسمه "هو" ويشاركني باسمي "أنا"!