(هذه القصة جزء من الرواية القصصية (تاريـــــخ روحـــــي)
                

               قصة: في البدء كان الحـلم!
سليم مطر ـ جنيف

                                    2 - Copie

الأرض ــ ما قبل الوعي

وعيت نفسي.. أين أنا؟ من أنا؟! من أين أتيت؟

انتبه لنفسي عند فجر، جالس عند نخلة مطلة على شاطئ نهر. في الضفة المقابلة بساتين ومزارع وبواد تسبح في أنوار نحاسية تخترق غيوماً بيضاء. مع تصاعد الأنوار تتلألأ المياه بتوهجات شفق فجري يتمايل مع ريح شمالية ناعسة تبث انتعاشة في بدني وتغرقني في استرخاء وخدر. المشهد ضبابي هلامي مثل حلم.

ـ آدم. اصح يا آدم.. الفجر يهّل والصباح قريب.. اصح يا آدم..

أأسمي آدم؟!

أسمعه يتردد في وجود خال من بشر، بينما أفواج سنونو تشق عباب سماء متجهة جنوباً. غيوم مفعمة بثمالة ليل تترنح في السماء. بجعات بيض ساحرات تطفوا بين مويجات. بطات مع فراخها تستريح على صخور..

أحلام أحلام أحلام.. لا أتذكر من وجودي سوى أحلام. كل كوني أحلام. أحلام تمضي وأحلام تأتي، وأحلام تنتظر بأحلام. من جديد الصوت يصدح في فضاء:

ـ آدم.. آدم.. ما بك يا آدم؟ تعال يا عزيزي تعال.. نكمل سوية ما تبقى من زمان.. سأحكي لك حياتك وتحكي لي حياتي.. تعال يا آدم تعال..

دون أن أفتح عينيي أرى امرأة تنبثق من ماء بجسد حنطي مبلول وشعر حني منثور وقامة باسقة مثل نخلة في صحراء. ترفرف حولها أسراب بجع وبط وسنونو. مياه فضية تجري سواقياً على نهدين وحلمتين نديتين خلف ثوب شفاف بألوان قزحية. من جديد شعَّ صوتها مع أنوار فجر:

ـ انهض يا آدم.. هيا، انفض عنك نوماً ولوماً.. تعال نغتسل بمياه فجر وحياة.. نهار آت وربيع في انتظار.. تعال يا عزيزي تعال..

دون أن أفتح عينَي أراها تقترب وترتسم عليها ابتسامة مفعمة بحنان. أجهل هوية هذه المرأة. هكذا انبثقت فجأة مثل حورية غامضة. لكن وجهها مألوف كأني أعرفها منذ زمان!

ـ من أنت أيتها الكائنة؟

تنفرج شفتيها بكلمات تذوب في زقزقة عصافير تمرق خاطفة. من خلف السراب بدأت تطل أشعة شمس متبرجة مبرقعة بالغيوم. كانت تسطع بخطوط ذهبية نحاسية تخترق النهر وتلتحم بقدمي الغارقتين. فتغور كفي في أطيان ورمال وحصى . أحس بخدر ولا مبالاة:

ـ إني لا أعرفك أيتها الكائنة.. لكني أشعر كأني أنتظرك منذ زمن طويل.. كما ترين فإني متعب حزين أبحث عمن يعينني في غربتي..

بتدرج متصاعد تتثائب الطبيعة من حولي بأغنية فجر ربيعي يعزف ريحاً وإيقاع مويجات وزقزقة عصافير ونقيق بط وضفادع مع ترانيم خافتة بعيدة.

تبتسم الكائنة الأليفة بحنان وقطرات دافئة تنساب من جسدها على وجهي:

ـ انهض وتيقظ يا عزيزي آدم.. انتهى موسم غيابك في عوالم النسيان.. ها هو ربيع ماض يهّل وتتفتح براعم ذكريات..

استغرب كلامها. أتكون ثملة قد هدَّها عالم ليل، فأتت لتمارس معي نزوات عابثة؟

ـ اسمعي يا كائنة، أنا كائن بلا ذكريات. لو كان لي ماض، فقد صار نسياناً.

ـ أنا أعرف حقيقة عذاباتك يا حبيبي.. نيرانك، حطبها ذكريات ودخانها أشواق... تعال يا عزيزي وجرب الترحال في عوالم ماض ما انتهى، إذ لا زال هنا في أعماقي أنا.. وأنت فيه..

راح يثقل عليَّ كلامها العابث الواثق. تخاطبني كأنها حقاً مالكة مصيري:

ـ أيتها المتعالية، إني أجهل مبتغاك.. إن كنت تودين حقاً مساعدتي فاطردي عني أشباح ماضي وخلصيني من غربتي وامنحيني الأمان.

اقتربت مني وفاحت منها رائحة قرنفل وهي تمّسد شعري بحنو وتهكم:

ـ اسمع يا آدم، ليس هنالك فائدة من إصرارك على النسيان.. هل تنكر بأنك أنت نفسك ليس أكثر من ذكريات؟
                                          *   *   *
كم كنت أود حينها أن أنتفض ضد هذه العابثة. لكني رغماً عني كنت مرتخياً ثملاً فاقداً لقواي. لذتُ بالصمت. لم أفهم مقصدها. أستغرب عدم غضبي من عبثها وكأني سبق وأن تعودت عليها وألفت كلامها.

- لا أفهم لغتك الساخرة.. لا أعرفك ولا أقبل تدخلك.. ماضيّ أنا انتهى..  دعيني عن حكاياتك، فأنا تعبان..

لم تدعني أكمل. قاطعتني بصوت هامس يشوبه ضجر:


ـ كفاك عناداً يا آدم.. أنت تؤذي نفسك هكذا وتؤذيني معك. ألم تتعود حتى الآن على فكرة أنك مجبر على الرحيل معي؟ هل عليَّ في كل مرة أن أذكرك بأنك بلا حرية اختيار؛ لأنك بكل بساطة لا تمتلك خياراً آخر غير ما أقرره أنا لك؟ انظر حولك ياعزيزي، انتبه لنفسك ولا تغرق في أحلام...

أردتُ أن أعترض وأحتج.. لكنها ضغطت بكفها الرقيق على فمي وهي تقول:

ـ اعرف يا عزيزي، إني لا أسخر منك أبداً.. اسمع مني الحقيقة التي سبق وأن سمعتها مني مراراً ومراراً.. أعيدها عليك الآن بصراحة واختصار: أنت ياعزيزي غير موجود إلاّ هنا في أعماقي.. ماضيك وحاضرك ومستقبلك وأحلامك كلها محفوظة هنا معي في عالمي.. حياتك حياتي وترحالك ترحالي.. أوَ فهمت؟

رغم أن كلامها بدا مضحكاً وبلا معنى، إلاّ أني في أعماقي أحسسته جاداً وحقيقياً حتى بدت كتلة من دخان تتكوم في صدري. غرقنا بصمت وأنا أفكر بأن أعثر على أي موضوع مهما كان.. فلتتوقف عن مهزلتها.

ـ تذَّكر يا آدم، تذَّكر وإياك أن تنسى.. أنت نفسك ذكرى..

يا إلهي، لماذا ينتابني هذا الإحساس بالرعب؟ كيف تسنى لها أن تؤثر في؟! يكفيني أن أبادلها السخرية أو أتجاهلها حتى ينتهي الأمر. بدأت أشك بأن ما يجرحني في كلامها هو إحساسي بأنه يحتوي على بعض من الحقيقة، أو ربما كل الحقيقة... مستحيل!

أنا على يقين بأني كائن.. وأني موجود هنا.. في هذه الأطيان والأشجار والمياه والسماء والفجر البازغ، فكيف تريد هذه الكائنة أن تقنعني بأني هكذا مجرد أحلام وذكريات؟!

ـ أرجوك كفي عن مزاحك.. ألا ترين كيف أنا حائر وتعبان.. أخبريني، من أنت؟

ـ أوه يا إلهي، متى أتخلص من هذه المشكلة التي مللت تكرارها معك منذ الأزل. اسمع يا آدم.. يا رجلي ويا سيدي، أنت لا يمكنك أن تحيا أو تبقى في أي مكان أو زمان من دوني أنا. حكاية وجودك محض أحلام تستمد حياتها من أحلامي أنا.. أنت رجل أحلامي، وعندما أنام أنا تستيقظ أنت في روحي..

أكررها عليك: أنت بكل بساطة يا عزيزي غير موجود.. نعم غير موجود إلاّ كحلم وتاريخ مخزون هنا في رأسي..انظر حولك.. يا حبيبي.. يا سيدي.. انظر أين أنت..

لاحت قطرات تتوهج في مقلتيها، بينما أصابعها تمَّسد شعري وتهمس في أذني بأغنية عن زمن يمضي وأسراب طيور لن تعود.

فقط في تلك اللحظة، انتبهت إلى غرابة الكون المحيط بنا!

بدا محيط الوجود دائرياً والسماء قبة مقعرة!. ثم شَرَعَتْ كفي مرتعشة تحفر الارض وتكوّر كتل ممزوجة برمل وطين وحصاء وإثل، وعندما وضعت رأسي على صدرها فاح منها عبق أرض وامتلأ فمي بطعم طين. دون أن أفتح عيني وجدت نفسي أهمس لها:

ـ أوه يا حوائي.. يا سيدة وجودي ومالكة روحي.. اعذريني عن النسيان، أعترف لك الآن.. أنت بيتي.. أنت وطني.. أنت حلمي.. أنت ماضيّ وحاضري.. أنت روح حيواتي السابقة واللاحقة.. أنت سر وجودي وخلودي وأحلامي..

رحماك يا سيدتي أعينيني فأنا تعبان ونار حنين تحرق حناياي وما عاد في روحي صبر. أنا سفينة بلا ربّان وسط أمواج عاصفة وغيوم كالحة. يا جليلة، أحلّفك بهذا الوجود، بسماء ونهر ونخيل وفجر ساطع، بعشق مجبول بأعوام، أنيري لي دربي، دلّيني على بر الأمان.. أنا تعبان..

أحس باختلال وزن كأني أعوم على جسدها. الأرض تميد بي كحبات هواء وماء منساب. قوة غامضة تشدني إلى جميع الأنحاء تكاد أن تمزقني إلى أشلاء مثل مركب تعصف به ريح.
حينها وأنا في لجة الضياع أدرك أن الفعل الوحيد الذي يمكنني القيام به؛ لإنقاذ نفسي، أن أفتح عيني.. قررت من دون تردد أن أفتح عينَّي لأشاهد الحقيقة كما هي.. كما هي حتى لو كانت وهماً وحلماً..

عندما فتحتهما لم أرَ، بل عشت كما لم أعش من قبل:

وجدت نفسي أطوف في حوائي. هي المياه الفياضة والكون المتفجر.. كيانها مرسوم بخطوط من أنوار وألوان وانفجارات بركانية.. شعرها شموس ووجهها سماوات ونهديها جبال وجسدها أمواج فضية. من عينيها ينبثق وهج ساطع يغمر الكون فتهتز الارض وتتهشم السماء كمرايا. يفيض النهر بأمواج تمتزج بشظايا أنوار تنتثر في أعالي سماوات. يستحيل الكون إلى احتفالات أسطورية من شلالات بيضاء زرقاء خضراء ذهبية لأنوار ومياه وثلوج وغابات جبلية.

في اللحظات الأخيرة، بينما أنا أغرق وأذوب كثلج في أحضان كونها، وتتفكك أعضائي بإرهاصاتها المتفجرة، وتتبخر أنفاسي بشهقاتها الملتهبة، وتبدو كل حياتي مجرد أحلام بأحلام، ولا شيء فيها غير وهم وخيال.. رغم ذلك، هنالك في أعماقي يقين ما بعده يقين، إنَّ لي ماضٍ من دم وطين، وتاريخ أحمق طويل، ومستقبل سيولد بكل يقين.