هذه القصة جزءا من الرواية القصصية (تاريـــــخ روحـــــي) 

           ميـلاد روحي

سليم مطر ـ جنيف

1 - Copie

     الأرض ــ ما قبل الإنسان

في البدء كان الوجود لا وجود.. كينونة في عدم.. حركة في ثبات.. روح في جماد.. خلود في زوال.. نور في ظلام..

وكان الإله في رحم دُرة وهو يخلق الدُرة.. وكانت روحي في روح الدرة الإلهية.

بعد أن أكمل الإله خلق الدرة، ولد منها، وكانت صرخة ميلاده:

كُنْ...!

ويرجع الصدى:

فيَكُنْ...!

فكان الكون.

الإنفجار الإلهي الأعظم، عدد هائل من الأجرام والأكوان والأفلاك، أشلاء وحمم جبارة واحتفالات نارية بحركة أزلية وبرائق خلابة... انفجارات لا تنتهي.

خلال أزمان وأزمان وأزمان من تيهان روحي في أنحاء الكون، وجدتني على كوكب الأرض.

أمضيت أزماناً وأزماناً وأزماناً في تنقلات لا تحصى من الجمادات حتى النباتات إلى الحيوانات.

مرة أخرى ثارت الأرض بانفجارات متعاقبة: براكين وزلازل وعواصف وطوفانات جبارة تمحق الحياة وتلونها بدماء.

بالتدريج يخبو الغضب وتخفت الانفجارات وتهدأ العواصف وتنقشع العتمة الحمراء. تعود البحار إلى أحواضها والأنهار إلى مجاريها. تسكب الشمس أشعة لاهبة على أديم الارض المعجون بالدم.. فكان آدم!

وجدت روحي تنبجس من بين الأطيان مع ذوات أمثالي. كنا كالفطر ننمو ونكتمل تحت الشمس. صنعنا الرب من انفجـار حاجته إلى لذة أبدية لا تنضب.. من توقه إلى جَمال أمثل وانسجام مطلق.

أنا الإنسان، ذروة الإبداع الإلهي. أنظم ما في العبث وأعقل ما في الجنون.. مخلوق على صورته، نموذج باهر لتكوينه. يميزني عن جميع كائناته. يضع فيَّ أبدع ما في خصاله:

"الخيال".. ملكة التفكير بما فوق المرئي والمحسوس، تذَّكر الماضي واكتساب الحاضر وتكهّن المستقبل.

والأهم من هذا، أني أدرك ذاتي جزءاً من ذات الخالق الأعظم، وحينما أقدسه فإني أقدس ذاتي معه. أشيّد له المعابد، وأقدّم له القرابين، وأؤلف عنه أسراراً وأساطير.

بي أنا الإنسان أكمل الإله خلقته، وأبصر وجوده، وبلساني أصبح قادراً على سرد حكاياته.

باسم الإله أنشر الحب والإخوة، وأقدس العدل والحق، وباسمه كذلك أعلن الحرب وأنشر الخراب وأسفك الدماء وأمارس الطغيان. إلهي هو رمز الخير عندما أصنع خيراً، وهو أيضاً رمز الخير عندما أقترف شراً. لذته جنتي، وسأمه جهنمي، ونزواته شيطاني.

بي أنا الإنسان اكتشف الرب إنسانيته، يحمل جوعاً أبدياً إلى المعرفة وتعرية المستور وإضاءة المُعتم. تجول روحي بين جواب وسؤال، يقين وشك، تقارب وتناء. بالشك والسؤال أخاف وأبتعد، وباليقين والجواب أثق وأندمج. جوابٌ يقودني إلى سؤال، وسؤالٌ يقودني إلى جواب. هي لذة المعرفة وحركتها السرمدية.

تتعاظم قدرات خيالي وتتنوع عوالمي. أمضي شغوفاً في المساهمة بلعبة الحياة والتاريخ، ولادة وموت، دول وشعوب وأديان. انتصارات وهجرات وثورات واكتشافات... جميعها خيال بخيال في رأس الرب. جموع البشر لا تدرك أبداً حقيقة كونها شعوباً من الخلايا، تعيش نزوات الخالق، سأمها من سأمه ولذتها من لذته، تحيا وتموت وتتجدد في مخيلته.

أنا الإنسان، الرب هو خالقي، ولكني أنا أيضاً خالقه؛ لأنه بمعرفتي يكتشف ذاته. إذ جعلني عقل الوجود وكينونته العليا ومركز خياله وأسمى مراحل الانسجام والتناغم بين المتضادات: ذكورة وأنوثة، فاعل ومنفعل، حكمة ومشاعر.

أنا الإنسان، لذّة الوجود القصوى. بالارتعاشة تتحد بذرتا ذكورتي وأنوثتي، وبالارتعاشة تنمو حياتي.

أنا الحياة: شهوة الجسد للحركة والانطلاق في رحاب الطبيعة الأم.

أنا الموت: شهوة الروح للتحرر من قيود الجسد والانطلاق في رحاب الوجود الأسمى.

أنا الحُب: شهوة شهوات واتحاد الملذات وأمل الروح بتحقيق حريتها في حركة الحياة وحرارتها.

وجودي في انسجام حيرتي، في تضادي المتناغم بين إنسانيتي الفانية وكينونتي الخالدة. بين بدني الزائل وروحي السرمدية.

أنا معبر بين الحيوان والملاك.. بين البدن والروح.. بين المادة والمطلق..

جهنمي في دنيوتي، وجنتي في سماوتي.

 

                                  *   *   *

أزمان وأزمان وقبائل روحي وشعوبها تنطلق في أرجاء كوني، تجتاز غابات وصحارى وأنهاراً وبحاراً. آلاف من حالات ولادة وموت. تستقر وتتناسل وتبني السدود وتحفر السواقي وتشيّد المدن والمعابد والأبراج.. تزرع وتصنع وتحكي وتكتب وتخـوض الحروب، وبالطين الأحمر تصنع تاريخها. تعيش طوفانات وطواعين واجتياحات جيوش غزاة.. ترحل شمالاً وجنوباً إلى أنهار وصحارى وبحار وأهوار وجبال. تولد روحي مرات ومرات، وتموت روحي مرات ومرات.