الحكاية العجيبة للسيدة  التي زارت العالم الآخر!

http://www.coeurconscienceparole.fr/medias/images/new-earth-7.jpg

سليم مطر ـ جنيف

شباط 2016

 
لم يخطر ببالي أبدا، يا إخوتي وأبنائي، أن أعيش هذه الحكاية العجيبة التي تناقض جميع معتقداتي العلمية المادية. أنا "زينب
 " أم لخمسة أبناء بعمر الشباب. أيام زمان، كنت مثقفة ومناضلة يسارية أمضيت عامين في السجن أيام شبابي الأول. رغم هجري للسياسة إلا أني بقيت متمسكة بعقيدتي العلمية التي ترفض الروحانيات وباقي الأمور التي أسميها خزعبلات وخرافات.

بدأت حكايتي العجيبة عندما تلقت عائلتنا خبر مقتل ابني "سلوان" في إحدى التفجيرات الإرهابية التي كثيرا ما تحصل في بغداد وعموم العراق. مثل الكثير من الضحايا لم نستلم أي جثة بل فقط أوراقه الشخصية التي عثر عليها في بقايا ثيابه المنتثرة المحترقة.

لا أحدثكم عن الصدمة القاتلة التي حطمتني، وخصوصا أن "سلوان" أصغر أبنائي وأقربهم إلى نفسي، إذ ما زال صغيرا في سن الخامسة عشرة. رحت أمضي النهارات والليالي وأنا أناجيه وأحلم به. يأتيني ويكلمني ويبكي على صدري ويطلب عطفي وعوني.

رغم إحاطتي الدائمة بزوجي وأبنائي، وبناتي خصوصا، وأقربائنا، إلا أن معاناتي لم تهدأ بل ظلت تتفاقم مع الأيام وأنا أشاهد ابني وأسمع صوته في كل زمان ومكان. ذات صباح، وجدوني ميتة بلا نفس وبلا نبضات قلب. وكان بين الحاضرين ابني "فادي" وهو طبيب، فقام بفحصي والتأكد من وفاتي. كالعادة وضعوني في قاعة الدار وغطوني وبكوا وصلوا ودعوا وعاتبوا وناجوا.

في اليوم التالي أتوا ليضعوني في التابوت وينقلوني إلى المقبرة، وإذا بي فجأة أشهق! لكني مع ذلك بقيت جامدة. لم يصدقوا وظنوا أنهم تخيلوا الأمر، لكنهم عندما وضعوا آذانهم على صدري سمعوا نبضات قلبي. كانت فرحة وهيجان. قام ابني الطبيب وبمعونة أبيه وأخواته، بتدليكي والعناية بي حتى بدأت بالتدريج أصحو. وقبل أن أفتح عيني، كنت أردد بصوت ساحر فيه أنغام دافئة لم تكن معروفة من قبل:


ـ سلوان يمى سلوان، انتظرني آني جايتك.. انتظرني عيني..

لم يفهم أحد ماذا أعني بهذياني إلا بعد أكثر من ساعة حيث استرددت عافيتي وسردت عليهم حكاية زيارتي العجيبة للعالم الآخر:

((عندما نمت ليلة موتي، كنت كالعادة أشاهد وأسمع ابني سلوان يناجيني ويطلب عوني. أنا الذي طلبت من كياني أن يميتني لكي ألبي نداءات ابني. في تلك الليلة استجاب لي كياني وغرقت أثناء نومي في موتي المنتظر. في الحقيقة لم يكن موتا، بل كان صحوة في عالم آخر. قبل أن أفتح عيني كنت أسمع أناشيد ساحرة مزيجا من أنغام قيثار وزقزقة عصافير وضحكات أطفال وتراتيل رجال ونساء، وكأني في سيمفونية كونية تشترك بإنشادها جميع المكنونات. نسيم يهب على كياني أحسه بداخلي كما لو كنت أنا ذاتي نسيما. لم أفتح عيني لأن الوجود كان في أنا وأنا في الوجود. لا أميز داخلي من خارجي. نعم كنت بلا بدن، بل الكون بأجمعه بدني. أحس بوجود الآخرين ليس بحواسي، بل بروحي ومشاعري. رجال ونساء وأطفال، طيور وفراشات وأشجار وأنهار، قصور بلورية منثورة في أراض وسماوات. نصلي ونغني ونتبادل محبة بأصوات بلا كلمات. ملذات عشقنا في أرواحنا، ورعشات نشوانا تحلق بنا في أعالي الذات.

لا أدري كم أزمان مضت ومضت تفوق ملايين الأعوام. كنت هنا منذ الأبد، بل أنا الأبد. ماضيّ حاضري، ومستقبلي حاضري، لا شيء غير الحاضر، لحظة وجود أبدية بلا بداية ولا نهاية.

لكن روحي هاجت فجأة وتذكرت أنها ما أتت إلا من أجل سلوان. وينك عيني سلوان. تعال حبيبي أنا تركت الدنيا وجيتك. وينك سلوان؟ ظلت روحي تجول في الأنحاء تنادي سلوان. حشود المخلوقات كلها تشاركني ندائي:

ـ وينك يا سلوان؟

ويعم الصدى في أقاصي الكون:

ـ وينك يا سلوان؟

وإذا بي فجأة أشاهد "سلوان" مقبلا نحوي ودموع الفرح في عينيه. قبل أن أفكر هبت روحي إليه. ما أن أصبحنا بمقربة حتى فرق بيننا حاجز غير مرئي يفصلنا. ارتعبت ورحت أضرب بكل كياني ذلك الحاجز وأنشد تراتيل مناجات لإله الكون ليحررني وأعانق ابني. لكني انتبهت إلى صوت سلوان وهو يخاطبني:

ـ يمى سامحيني، آني مو وياك بالآخرة.. آني مريض وتايه. جيت اقلك ارجعي يمى للحياة وخلصيني من ضياعي.. آني مريض وتايه..

ثم اختفى سلوان وبقيت وراءه أصداء كلماته الأخيرة:

ـ ارجعيلي يا يمى .. ارجعيلي وخلصيني يمى..

وأنا أناديه:

ـ أي عيني ومهجة روحي، فهمتك يمى، آني جايتك))..

وها أنا أصحو من موتي لكي أخبركم يا أعزائي أن أخاكم سلوان لم يمت، بل هو ضائع في بغداد. عندما كان يأتيني ويخاطبني في أحلامي، لم يكن من دار موته، بل من دروب ضياعه...

وفعلا في ذات الساعة هب جميع أفراد عائلتنا وأقاربنا وحتى جيراننا وكل من يستطيع معرفة سلوان حينما يراه، ومعهم صوره، وانتشروا في أنحاء بغداد، في جميع المستشفيات ومراكز الشرطة ودور العجزة والمجانين. وفي الأزقة بين المشردين. وفي البساتين والأبنية المهجورة. وبعد ثلاثة أيام، جاءوني بحبيبي سلوان. وجدوه فاقدا للذاكرة إثر الانفجار، وحيدا في بستان مهجور يعيش على الثمار المتساقطة وعطايا المحسنين. وكان الناس يعطفون عليه لأنه كان دائما يبكي وهو ينشد بعبارة واحدة وحيدة:

ـ وينك يا يمى.. وينك يا عيني ومهجة روحي.. وينك يا يمى تعالي خلصيني..