حكاية (رضوان)

              الذي لم يصبح وزيرا في السودان!

https://cieljyoti.files.wordpress.com/2013/11/gc3a9ricault-24.jpg

سليم مطر ـ جنيف

2015

 
كان "رضوان" جالسا في الطائرة غارقا في التفكير بمصيره بعد صدمة الخيبة العظيمة التي يعيشها منذ ليلة أمس. بين حين وآخر يتمعن بالتابوت الموضوع جنبه في ممشى الركاب، حيث يرقد فيه زعيمه الراحل "الشريف الميروني". بالأمس فقد الأمل بتحقيق حلم حياته وانتهت إلى الأبد آماله أن يصبح وزير خارجية السودان. لقد مات حلمه بموت زعيمه الذي كان يعد لانقلاب عسكري يصبح بفضله رئيسا للوزراء.


منذ طفولته و"رضوان" يحلم أن يكون زعيما كبيرا. ولد في القدس، من أم سورية وأب فلسطيني من بقايا جنود (إبراهيم باشا) السودانيين الذين استوطنوا فلسطين قبل أكثر من قرن. وبعد نكسة 1948 هاجرت العائلة إلى السودان حيث نشأ الطفل (رضوان) وكبر في الخرطوم. لكنه أمضى طفولته وصباه متنقلا بين أقاربه في دمشق والقدس والخرطوم والقاهرة. ومنذ أول شبابه توسع حيز تنقله إلى أوربا التي دخل مجتمعاتها طالبا ومناضلا وعاشقا ودبلوماسيا. وها هو منذ سنوات يقيم في باريس، مطلقا من امراة فرنسية خلف منها بنتا. لا أحد يعرف كيف يعيش وهو عاطل يمضي وقته في مقاهي "الشانزيليزيه" بحكي مغامراته الخائبة ونهاية حلمه بأن يصبح وزير خارجية، ثم رئيس وزراء السودان.


    يصح القول إن "رضوان" يستحق فعلا أن يكون وزيرا في السودان بل حتى رئيسا للوزراء. يجلب الانتباه بقامة فارعة وهيئة سلطانية بجبهة عريضة وعينين واسعتين كحيلتين ثاقبتين، لا تكفان عن النط في جميع الأنحاء، ثم تغرقان في تأمل روحاني عميق. بشرته سمراء وشواربه حربية سوداء معقوفة نحو وجنتيه. منذ اللحظات الأولى يخلبك ببراعته الفائقة في الحكي وصوته الخطابي الدافئ وسرده الممتع الخليط من الأفكار والأخبار والطرائف والحكم والنوادر وأسماء الشخصيات السياسية والثقافية العربية والأوربية المهمة التي يدعي أنه التقى بهم شخصيا، بل أكثرهم أصحابه وعاش معهم تجارب. رغما عنك يتحول "رضوان" أمامك إلى ممثل كبير على خشبة مسرح فخم، حتى وهو جالس جنبك على كرسي متواضع.


    يقول عن نفسه: (أنا رجل القضايا الخاسرة). إنه منحوس، لم يدخل مشروعا إلا وانتهى بالخسارة. لم ينس أبدا تلك الليلة السوداء التي تحطمت فيها أحلامه قبل أعوام:


 ((يا إخوتي، ذلك اليوم كنت مع "الشريف الميروني" في إحدى فنادق باريس. بعد انتهاء اجتماعنا الذي تم فيه توضيح بعض التفاصيل المهمة عقب الانقلاب المخطط في الأسبوع القادم لإسقاط السلطة في السودان. كان برنامجنا إقامة حكم ديمقراطي أكون فيه وزيرا للخارجية وزعيمي رئيسا للوزراء. بل فهمت منه بصورة غير مباشرة، أني خلفه في رئاسة الوزراء، لأنه يأمل، بعد بضع سنوات في التقاعد والاستراحة من السياسة. تركته ليستريح، وذهبت إلى غرفتي على أمل اللقاء عند العشاء. وقفت أمام مرآة الحمام ورحت أتمعن بوجهي. أحسست فجأة في صدري بغيمة من القلق، ورحت أسأل نفسي:


 هل يستحق فعلا وجهي أن يكون لوزير خارجية؟ بشرتي ليست بما يكفي من السواد لكي أكون وزيرا سودانيا. يقينا إن المعارضة سوف تستغل بياضي، لتسود علي حياتي.. طز.. لا يهم حتى لو بقيت بضعة أسابيع، تكفيني لكي أحمل لقب "وزير سابق" وهذا فخر يبقى معي طيلة حياتي، بل حتى ورثتي سوف يفتخرون به. ابنتي "سامية" سوف تفتخر أمام الفرنسيين: "أبي وزير خارجية سابق".. أتمنى أن  لا يسألها أحد في أي بلد، عسى أن يظنوا أنها تعني فرنسا. المهم "وزير سابق". ها أنت أخيرا يا رضوان، بينك وبين عرش السودان بضعة أيام، وتجلس على كرسي الوزارة ثم يقينا فيما بعد ترأس الوزراء. دون وعي التفت نحو مؤخرتي ورحت أتحسسها بكفاي وأنا أسألها: هل تستحقين يا عزيزتي شرف الجلوس على كرسي الوزارة بعد أن برتك الأعوام من الجلوس على كراسي الغربة والترحال؟


في المساء ذهبت إلى غرفة زعيمي كي ننزل إلى قاعة العشاء. طرقت فلم يفتح. أدرت قبضة الباب فلم يكن مقفولا. عندما دخلت وجدته راقدا على سريره غارقا في موت مفاجئ. فارتميت عليه باكيا نادبا. طبعا يا إخوتي بالحقيقة لم أكن أبكي على زعيمي، بل على كرسي الوزارة الذي فقدته إلى الأبد. ودون وعي مني، وجدتني أكيل الضربات إلى مؤخرتي وأنا أصرخ بها: طاح حظك يا مسكينة، عودي إلى كراسي العطالة والشانزيليزيه.


في الطائرة كنت مع وفد الحزب المتكون من خمسة خائبين مثلي تبددت أحلامهم بكراسي الوزارات، نرافق تابوت زعيمنا إلى ليبيا، ليتم نقله من هنالك إلى السودان، ميتا وليس رئيسا للوزراء. وأنا في لجة تفكيري في مصيري المجهول، وإذا بصوت المضيفة يسألني:


ـ دجاج أم سمك؟


وعندما رفعت رأسي اندهشت من رفاقي يتبادلون قطع السمك والدجاج من فوق التابوت. أجبتها دون تفكير بفرنسية مكسرة:


ـ قطعة وزير رجاء.. une piece de ministre s'il vous plaît