يحق لمن يرغب، اعادة نشر القصة مع ذكر اسم المؤلف

 

من ذكريات جدنا "الزعيم مايكل"

       أول قرد تحول إلى إنسان..

 

سليم مطر ـ جنيف

آذار 2016

http://i.skyrock.net/3428/30923428/pics/1090754512_small.jpg 

دعوني يا أحفادي البشر أَسردُ عليكم حكايتي التي تحتوي على تفاصيل لا يعرفها جميع العلماء الذين ادعوا معرفةَ كل شيء عن أصلكم القردي، وعلى رأسهم صديقنا العزيز "دارون".

أقدم لكم نفسي؛ أنا جدكم "الزعيم مايكل" أول من شاءت الأقدارُ أن تُحولني إلى إنسان، وذلك عام مليونين وسبعة وأربعين قبل الميلاد.

كنت قردًا نبيلا أتزعَّم عشيرة كبيرة من القرود، نقطن في إحدى غابات منطقة "هولالا" في وسط أفريقيا. ذات يوم، بالضبط في الساعة الثامنة و36 دقيقة من صباح الاثنين ليوم خريفي مشمس بينما كنت مستلقيًا على غصن شجرتي الملكية العملاقة محاطًا بزوجاتي التسع اللواتي يخدمنني ويداعبنني وأنا أتناول إفطاري الصباحي المتكون من 11 موزة وثلاث خنفسات وذيل برعص عملاق مشوي مع البصل، مصحوبا بطاسة حليب ثعالب محلى بذروق الطيور. فجأة ودون أية علامات مسبقة، انقلب الجو وغابت الشمس واسودت السماء وانتشر الهرج والفوضى بين قرود وحيوانات غابتنا. وإذا بعاصفة كاسحة تهب مصحوبة برعود وصواعق وبروق، والسماء تمطر بشدة حتى خُيِّلَ لنا أن هنالك تمزقًا حدث بسقف الكون واندلقت علينا مياه البحر الإلهي.

لم ألحق إنهاء إفطاري، إذ بينما كان ذيل البرعص يتدلى من فمي والبصلة بيدي وحليب الثعالب المحلى ينسكب على صدري، تزحلقت أصغر زوجاتي -جدتكم الراحلة "سامانتا"- بقشرة موز وسقطت عليَّ، مما جعلني أنا بدوري أسقط من أعالي الشجرة العملاقة على الأرض المشتعلة.

رغم هول الصدمة، فإني تمكنت من الزحف ولحقت نفسي قبل أن يحترق شعر رأسي كله، بينما زوجاتي الحبيبات وقبيلتي كلها في حيص بيص لم يحصل مسبقا أبدا.

                             *     *     *

فيما بعد عرفت أنه في هذه اللحظة حصلت أعظم وأكبر ثورة في تاريخ الأرض:

تحولي أنا "الزعيم مايكل" من قرد إلى إنسان!

بسبب عوامل طبيعية عديدة معلومة ومجهولة، أخذت التغيرات العجيبة تحدث في بدني، نقلتني من الحالة القردية إلى الحالة البشرية. لا زال العلماء يختلفون حول عدد الأيام التي بقيت فيها أزحف على بطني بين العواصف والصواعق والأمطار أثناء تحولي. البعض يعتقد أنها خمسة أيام وثلاث ساعات، والبعض يرى أنها يومان وخمس عشرة ساعة. لكني أنا الآن أتذكر بالضبط أنه كان يوم خميس، وهذا يعني أني بقيت حوالي أربعة أيام.

المهم، يبدو أني بينما كنت أعيش هذه الصدمة البدنية والنفسية في ظل هذه الثورة الكونية وما جلبته من مؤثرات فيزيائية وكيميائية وبيولوجية، كلها تراكمت بكثافة وشدة فائقتين جعلتني أفقد الوعي وأُشْرفُ على الموت، بل هنالك من العلماء من يعتقد أني قد مت فعلا، لكن صاعقة ضربتني على خلفيتي جعلت كهرباء الحياة تسري من جديد في كياني. ودليلهم على تعرضي لهذه الصاعقة هو اختفاء آثار ذيلي القردي منكم يا أحفادي الأعزاء، وأن خلفياتكم ملساء خالية من الشعر.

وهنالك فرضية لم تحسم بعدُ، تقول: إن حرق شعر رأسي في هذه الحادثة، يفسر حالات الصلع لدى الرجال. ولحسن الحظ أن زوجتي الحبيبة -جدتكم سامانتا- بقي شعرها سالما، وإلا لكانت أورثت الصلع لحفيداتي النساء أيضا. هناك أيضا تحول عيوني إلى خضراء بسبب الرعب الذي أصابني وأنا أبحلق في الكارثة، مما جعل المواد الكيماوية تدخل عيني وتغير لونهما. أما جدتكم سامانتا فقد بقيت عيونها سوداء، وهذا يدل على أن البشر ذوا العيون الخضر هم من ورثتي، وذوا العيون السود هم من ورثة المرحومة سامانتا.

                                             *   *  *

رغم أني نجوت من الكارثة، إلا أن معاناتي الحقيقية قد بدأت بعد ذلك، حينما انتبهت إلى أني قد تحولت إلى إنسان. عشت حالة انفصامية قاسية بين طبيعتي البشرية الجديدة وعاطفتي القردية الأصلية. اتهمني إخوتي الخمسة عشر وأبناء عمومتي التسعة والعشرون، بأني بدأت أتعالى وأستنكف أن أبقى قردًا مثل السابق وأحافظ على دوري الزعامي المعتاد. وهذا غير صحيح لأني رغم اكتشافي لميزاتي البشرية العليا، إلا أني بقيت مصرًّا على البقاء وفيا لجنسي وأهلي. لكن الحقيقة أنهم هم الذين بدأوا يغارون مني لأني بدأت أسير منتصبا على قدمين بينما هم على أربع، وأَرْطُنُ بأصوات وكلمات لا ينطقونها، وأنتبه لأمور لا يرونها، وأخترع وسائل لا يفهمونها. أما زوجاتي اللعينات فقد استغللن تململ الآخرين مني ووجدن حجة للتنفيس عن غيرتهن لأني أفضل عليهن أصغرهن؛ جدتكم المرحومة "سامانتا". وكانت القشة التي قصمت ظهري، عندما انتبهت زوجاتي أني بدأت أعاشر سامانتا بطريقة جديدة لم تعرفها القرود، بل الحيوانات قاطبة؛ أنام فوقها وجها لوجه، بدلا من وجه لظهر..

الشيطانات عملن لي فضيحة، كأني اغتصبت نملة. انتشر الخبر المخزي في أنحاء الغابة وسمعت به حتى الأسود والذئاب، أما الثعالب الحيالة فقد ألَّفْن عنه النكات والأغاني:

الزعيم مايكل، أصبح شاذا

يعاشر زوجته بالمقلوب وهو يحدق بوجهها..

ياللفضيحة!

حينها ثارت ثائرتي وفقدت أعصابي وأعلنت ثورتي على عشيرتي وعلى جنسي، بل على الحيوانات جمعاء. كفى ثم كفى. ها أنا قد أمضيت ما يكفي من الوقت من أجل تهدئة الأمور وإثبات إخلاصي لقبيلتي، إلا أن الواقع أقوى من النوايا، وأن طبيعتي البشرية يستحيل أن تتواءم مع طبيعتهم القردية، ولا مع حياة البهائم في الغابات والبراري.  

                                       *     *     *

هكذا قررت الرحيلَ رغم بكاء وعويل نسائي التسعة وأطفالي الثلاث والعشرين وباقي إخوتي وأقاربي. بعد حوالي ثلاثة أشهر من كارثة تحولي، وفي الساعة الرابعة صباحا من فجر الأحد، تسللت هابطًا من شجرتي الملكية، دون أن يلمحني أحد، مصطحبًا معي أصغر زوجاتي "العزيزة سامانتا" التي رغم بقائها على جنسها القردي، إلا أني كنت أعشقها ولا أتخيل حياتي البشرية دونها.

بقينا نسير أيامًا وأشهرًا وأعوامًا متجهين دائما نحو الشمال بعيدًا عن مناطق أسلافنا القرود وإخوتنا البهائم. أخيرًا وجدنا أنفسنا على ضفاف البحر المتوسط. لقد شعرنا ببعض الأمان في هذه الشواطئ الخلابة البعيدة عن الغابات التي يقطنها جنسنا. لكننا كنا مضطرين -أنا وزوجتي وأبناؤنا وأحفادنا- إلى التنقل الموسمي بحثا عن الكلأ. وقد ساعدتنا في ترحالنا حيواناتٌ غريبةٌ لم نعرفها من قبل. إنها الجمال الطيبة المسالمة التي تتحمل الأثقال والتجوال والجوع والعطش.

مع الزمن انتشر أحفادنا في أنحاء الضفة الشرقية من البحر المتوسط، بين جبال الأطلس ووادي النيل وشواطئ سوريا ووادي دجلة والفرات. ومن هنالك انتشرنا في أنحاء الأرض وعمرنا جميع القارات.

أخيرا، أود يا أحفادي الأعزاء أن أكشف لكم عن سر لم أتجرأ على التصريح به من قبل:

لقد أمضيت حياتي وأنا أحن لحياتي مع قبيلتي القردية، فلم يخطر ببالي -رغم جميع الامتيازات العقلية والبدنية التي حصلت عليها من تحولي إلى إنسان- أن أفتقد بساطة العيش في الطبيعة وعالمي الذي لا يتعدى غابتي وعشيرتي. آه كم أشتاق إلى القفز بين الأشجار وصيد الأفاعي ومعاكسة الأسود برميها بالثمار، وتناول وجبات موز وخنافس وذيول براعص مشوية مع بصل وحليب ثعالب. لكني أود -بنفس الوقت- الحفاظ على امتياز بشري لا يمكنني أن أستغني عنه؛ أن أعاشر زوجاتي وجهًا لوجه، لأن تعبيرات اللذة والحياة على وجوه البشر هي أروع لوحات الإبداع والجمال.  

                      حكاية (رضوان)

              الذي لم يصبح وزيرا في السودان!

https://cieljyoti.files.wordpress.com/2013/11/gc3a9ricault-24.jpg

سليم مطر ـ جنيف

2015

 
كان "رضوان" جالسا في الطائرة غارقا في التفكير بمصيره بعد صدمة الخيبة العظيمة التي يعيشها منذ ليلة أمس. بين حين وآخر يتمعن بالتابوت الموضوع جنبه في ممشى الركاب، حيث يرقد فيه زعيمه الراحل "الشريف الميروني". بالأمس فقد الأمل بتحقيق حلم حياته وانتهت إلى الأبد آماله أن يصبح وزير خارجية السودان. لقد مات حلمه بموت زعيمه الذي كان يعد لانقلاب عسكري يصبح بفضله رئيسا للوزراء.


منذ طفولته و"رضوان" يحلم أن يكون زعيما كبيرا. ولد في القدس، من أم سورية وأب فلسطيني من بقايا جنود (إبراهيم باشا) السودانيين الذين استوطنوا فلسطين قبل أكثر من قرن. وبعد نكسة 1948 هاجرت العائلة إلى السودان حيث نشأ الطفل (رضوان) وكبر في الخرطوم. لكنه أمضى طفولته وصباه متنقلا بين أقاربه في دمشق والقدس والخرطوم والقاهرة. ومنذ أول شبابه توسع حيز تنقله إلى أوربا التي دخل مجتمعاتها طالبا ومناضلا وعاشقا ودبلوماسيا. وها هو منذ سنوات يقيم في باريس، مطلقا من امراة فرنسية خلف منها بنتا. لا أحد يعرف كيف يعيش وهو عاطل يمضي وقته في مقاهي "الشانزيليزيه" بحكي مغامراته الخائبة ونهاية حلمه بأن يصبح وزير خارجية، ثم رئيس وزراء السودان.


    يصح القول إن "رضوان" يستحق فعلا أن يكون وزيرا في السودان بل حتى رئيسا للوزراء. يجلب الانتباه بقامة فارعة وهيئة سلطانية بجبهة عريضة وعينين واسعتين كحيلتين ثاقبتين، لا تكفان عن النط في جميع الأنحاء، ثم تغرقان في تأمل روحاني عميق. بشرته سمراء وشواربه حربية سوداء معقوفة نحو وجنتيه. منذ اللحظات الأولى يخلبك ببراعته الفائقة في الحكي وصوته الخطابي الدافئ وسرده الممتع الخليط من الأفكار والأخبار والطرائف والحكم والنوادر وأسماء الشخصيات السياسية والثقافية العربية والأوربية المهمة التي يدعي أنه التقى بهم شخصيا، بل أكثرهم أصحابه وعاش معهم تجارب. رغما عنك يتحول "رضوان" أمامك إلى ممثل كبير على خشبة مسرح فخم، حتى وهو جالس جنبك على كرسي متواضع.


    يقول عن نفسه: (أنا رجل القضايا الخاسرة). إنه منحوس، لم يدخل مشروعا إلا وانتهى بالخسارة. لم ينس أبدا تلك الليلة السوداء التي تحطمت فيها أحلامه قبل أعوام:


 ((يا إخوتي، ذلك اليوم كنت مع "الشريف الميروني" في إحدى فنادق باريس. بعد انتهاء اجتماعنا الذي تم فيه توضيح بعض التفاصيل المهمة عقب الانقلاب المخطط في الأسبوع القادم لإسقاط السلطة في السودان. كان برنامجنا إقامة حكم ديمقراطي أكون فيه وزيرا للخارجية وزعيمي رئيسا للوزراء. بل فهمت منه بصورة غير مباشرة، أني خلفه في رئاسة الوزراء، لأنه يأمل، بعد بضع سنوات في التقاعد والاستراحة من السياسة. تركته ليستريح، وذهبت إلى غرفتي على أمل اللقاء عند العشاء. وقفت أمام مرآة الحمام ورحت أتمعن بوجهي. أحسست فجأة في صدري بغيمة من القلق، ورحت أسأل نفسي:


 هل يستحق فعلا وجهي أن يكون لوزير خارجية؟ بشرتي ليست بما يكفي من السواد لكي أكون وزيرا سودانيا. يقينا إن المعارضة سوف تستغل بياضي، لتسود علي حياتي.. طز.. لا يهم حتى لو بقيت بضعة أسابيع، تكفيني لكي أحمل لقب "وزير سابق" وهذا فخر يبقى معي طيلة حياتي، بل حتى ورثتي سوف يفتخرون به. ابنتي "سامية" سوف تفتخر أمام الفرنسيين: "أبي وزير خارجية سابق".. أتمنى أن  لا يسألها أحد في أي بلد، عسى أن يظنوا أنها تعني فرنسا. المهم "وزير سابق". ها أنت أخيرا يا رضوان، بينك وبين عرش السودان بضعة أيام، وتجلس على كرسي الوزارة ثم يقينا فيما بعد ترأس الوزراء. دون وعي التفت نحو مؤخرتي ورحت أتحسسها بكفاي وأنا أسألها: هل تستحقين يا عزيزتي شرف الجلوس على كرسي الوزارة بعد أن برتك الأعوام من الجلوس على كراسي الغربة والترحال؟


في المساء ذهبت إلى غرفة زعيمي كي ننزل إلى قاعة العشاء. طرقت فلم يفتح. أدرت قبضة الباب فلم يكن مقفولا. عندما دخلت وجدته راقدا على سريره غارقا في موت مفاجئ. فارتميت عليه باكيا نادبا. طبعا يا إخوتي بالحقيقة لم أكن أبكي على زعيمي، بل على كرسي الوزارة الذي فقدته إلى الأبد. ودون وعي مني، وجدتني أكيل الضربات إلى مؤخرتي وأنا أصرخ بها: طاح حظك يا مسكينة، عودي إلى كراسي العطالة والشانزيليزيه.


في الطائرة كنت مع وفد الحزب المتكون من خمسة خائبين مثلي تبددت أحلامهم بكراسي الوزارات، نرافق تابوت زعيمنا إلى ليبيا، ليتم نقله من هنالك إلى السودان، ميتا وليس رئيسا للوزراء. وأنا في لجة تفكيري في مصيري المجهول، وإذا بصوت المضيفة يسألني:


ـ دجاج أم سمك؟


وعندما رفعت رأسي اندهشت من رفاقي يتبادلون قطع السمك والدجاج من فوق التابوت. أجبتها دون تفكير بفرنسية مكسرة:


ـ قطعة وزير رجاء.. une piece de ministre s'il vous plaît

 الراهب والملحد..وحواء!

سليم مطر ـ جنيف

2015 

http://www.tao-yin.com/astrologie/img/Serpent_Eve_Serpent2.gif

  
سكنت في كوخ جبلي منعزل في أطراف قرية جبلية في مقاطعة "الفاليه" السويسرية. قررت هجر مدينة "جنيف" واعتزال العالم بعد خيبتي العائلية وقراري بالافتراق عن زوجتي. بعد أن تفاقمت في السنوات الأخيرة الحساسيات والمشاكل، اتفقنا على نوع من الإجازة بيننا لكي نمنح أنفسنا فرصة للتفكير ثم القرار بالعودة إلى الحياة المشتركة أو طلب الطلاق. كانت تزورني بين حين وآخر كي تجلب لي ابنتي الصغيرة "سامية" في سن السابعة.


أثناء تجوالي اليومي في الغابة تعرفت على أحد الرهبان الذي كان تقريبا بنفس عمري، أي في الأربعينيات. كان يشبهني في طول القامة بل وفي الملامح، إلا أنه كان يميل إلى الشقرة وأنا أميل إلى السمرة. قال إنه يقطن في دير في المنطقة. لم نكن نتطرق إلى حياتنا الشخصية بل بقيت حواراتنا محصورة بالأمور الفلسفية والروحية والفنية. وأكثر ما شدني إليه سرده الجميل لقصص الكتاب المقدس. كان مولعا بالقصص وبخاصة قصة طرد آدم وحواء من الجنة، وقصة خروج السيد المسيح إلى البرية ليواجه تحديات الشيطان.


 المعلومة الشخصية الوحيدة التي تبادلناها، أن اسمه (جان) وأنا اسمي (نبيل)، وكان مثلي رساما قرر هجر الرسم مع هجره لحياته السابقة. من الطبيعي انه مؤمن بالمسيحية وما يتعلق بها من روحانية وفلسفة، أما أنا فكنت متمسكا برؤيتي العلمية الإلحادية، رافضا لكل ما هو ديني وروحاني. لكن هذا التناقض العقائدي لم يمنع من دوام حواراتنا، بل على العكس، أضفى عليها حماسة ممتعة. فكنا دائما نودع بعضنا مازحين:


ـ ليكن الرب معك يا نبيل
فأجيبه أنا ضاحكا:
ـ لتكن الطبيعة معك يا جان
                     *  *  *
 

مع مرور الأسابيع، كان من الطبيعي أن يتعرف (جان) على زوجتي "إيفا" وابنتنا "سامية" أثناء زيارتهما لي. كان يشاركنا الشاي والحوارات حيث كانت زوجتي لا تقل عنا حماسة وبراعة فيها. فهي مغنية أوبرا ومثقفة إيطالية من الدرجة الأولى وملحدة مثلي. وعندما سأَلَتْه عن مكان الدير، وهل يمكن زيارته، قال لها: إنه هنالك في أعالي الجبال وراء الغابات، والنساء محرم دخولهن.
لا أدري لماذا تخيلت حينها أني سأعيش ذات يوم في هذا الدير!


كانت زوجتي تتعمد أن تجلب لي معها الصحف العربية والفرنسية، على أمل التخفيف من قطيعتي العالم وربطي به. كما كانت تتعمد أن تفتح حاسوبها وتجعلني أشاهد معها مسرحيات وأفلاما. وكان الراهب (جان) في المرات الأولى يرفض مشاركتنا، لكن مع مرور الوقت لاحظت أنه بدأ يطالع الصحف التي تتركها زوجتي على الطاولة. بل راح يشاركنا أيضا مشاهدة الأفلام والمسرحيات. وفي يوم مشمس كنا جالسين جميعا في الباحة أمام الكوخ، نحتسي الشاي، وإذا بي أشاهد ثعبانا مرقطا بحجم الذراع مستلقيا على بعد أمتار بين العشب المبلل يثب برأسه ويرمقنا مثل حيوان أليف. فزعت كعادتي لأني أشد ما أرتعب وأتقزز من مجرد ذكر اسم الثعبان. قفزت وتناولت حجرا لأقتله، وإذا بـ"إيفا" تقفز نحوي وهي تصرخ بي وكأني سأوذي شخصا عزيزا عليها. فأمسكت يدي وهي تستغيث بي أن أهدأ وأترك الأمر لها. خجلت وتراجعت خصوصا من وجود صاحبي (جان) وما يمكن أن يظنه بي. لا أدري ماذا فعلت "إيفا"، فقد عادت بعد حوالي نصف ساعة مبتسمة وهي ترمقني بنظرات عتب حنون مثل أم تسخر من شقاوة ابنها.


لم أنتبه إلا فيما بعد أن راهبي كان يزورني دائما في الأيام التي تزورني فيها زوجتي وكأنه يترقب هذا الموعد، واستغربت أن "إيفا" كانت تجلب معها تفاحا، رغم أنها تعرف أني لا أحب التفاح. وكانت في كل مرة تقدم واحدة منها للراهب. وتكاثرت الحالات التي كنت أراهما فيها ينطلقان في حوارات عميقة دون الاهتمام بإشراكي، مع ممازحات شخصية وكأنهما يعرفان بعضهما منذ أعوام طويلة. بل حتى ابنتي كانت تبدي فرحا كبيرا بلقاء (جان) وتطلب منه أن يشاركها ألعابها.


 جلب انتباهي انخفاض حماسة راهبي بالدفاع عن مسيحيته وروحانيته، بل كثيرا ما كان ينزلق ببعض التهكمات والنقد للقديسين وقصصهم.
 دون أن أدرك متى بالضبط بدأت الحالة، وجدت نفسي بالتدريج أدافع أنا عن الروحانيات أمام صديقي (جان) الذي لم يكن يكف عن نقدها ودحضها متبنيا الرؤية المادية العالمية!
                      *   *   *

وذات صباح شتوي معتم حيث الثلج غطى الأرض بأكثر من متر، وأنا أتصارع مع المدفأة أغذيها بالحطب كي تنشط نيرانها انتظارًا لاستقبال زوجتي وابنتي. كنت كئيبا بعد أن أمضيت ليلة مضطربة كلها كوابيس عن أفعى رقطاء تطاردني، وأبي يصرخ بي وهو يطردني من الدار، وأمي تبكي وهي تغطي وجهها الأبيض بفوطتها السوداء وتمد لي تفاحة حمراء.


فجأة انتبهت إلى (جان) يفتح الباب داخلا وهو يخلع حذاءه وقفطانه المغطى بالثلج.
دون أي كلمة أو مصافحة، جلس مقابلي عند المدفأة وراح يسخن كفيه ووجهه قرب اللهب الأزرق. كان محمرا مصفرا يرتجف بصورة مرضية ويتجنب النظر إلي، بل بقي صامتا يبحلق بالنيران ويحركها بعصاه بين حين وآخر. تركته في حاله عندما رأيت عدم حماسته للحديث. كنا وحيدين وسط صمت الطبيعة والكوخ المتقطع بهسيس لهيب وطرقعة شرارات وأنفاس مضطربة. بين حين وآخر، كنت أسمع منه همهمة مكتومة مع توقف أنفاسه كأنه يصارع قوة مجهولة في داخله تمنعه من النطق. أخيرا شرع بالكلام دون أن ينظر لي وكأنه يتحدث إلى نيران أضفى وهجها على وجهه مسحة من عذاب خرافي. بدا صوته هامسا غامضا مثل صدى قادم من بعيد:

ـ ((اسمع يا صاحبي نبيل، أرجوك أنصت جيدا لحكايتي هذه، وقرر بعدها ما تشاء:

قبل سبعة أعوام كنت أنا مثلك أسكن في هذا الكوخ نفسه. وكنت مثلك قررت الاعتزال عن العالم بعد الانفصال عن زوجتي. وكانت هي أيضا تزورني لتجلب لي ابنتنا. وكنت أيضا مثلك ملحدا، وتعرفت أيضا على راهب طيب ومثقف أصبح صديقي. ومثلك عرفت الراهب على زوجتي وابنتي. وخلال فترة أشهر، ترك الراهب الدير وعاد إلى المدينة وأصبح زوجا لزوجتي وأبا لابنتي. أما أنا فقد حللت محله وأصبحت راهبا كما تراني)).

  صمت (جان) وبقي جامدا في وضعه. وخُيِّل لي أنه كان يهمس بآيات من سفر التكوين، التقطت منها بعض المقاطع:

(( فَنَادَى الرَّبُّ آدَمَ : أيْنَ أنْتَ؟  فَقَالَ: سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ.  فَقَالَ: َمنْ أعْلَمَكَ أنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ التِي أوْصَيْتُكَ أنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا؟  فَقَالَ آدَمُ: المَرْأَةُ التِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ.  فَقَالَ الرَّبُّ لِلْمَرْأَةِ: مَا هذَا الذِي فَعَلْتِ؟
فَقَالَتِ المَرْأَةُ: الحَيَّةُ غَرَّتْنِي فَأَكَلْتُ. وَقَالَ الرَّبُّ: هُوَ ذَا الإنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الخَيْرَ وَالشَّرَّ.  فَطَرَدَ الإنْسَانَ من الجنة إلى الأرض، لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الحَيَاةِ...))

لم أشعر بحياتي كلها براحة مثلما شعرت حينها. أغمضت عيني وأنا أشاهد أبواب السماوات مفتوحة كلها باستقبالي. وأن الملائكة تنشد مرحبة بي. أنفاسي هسيس نيران، ونبضاتي طرقعة شرارات.

 دون أن ننطق كلمة واحدة، وجدت نفسي أقف وأخلع سترتي وقميصي وبنطالي، و(جان) مثلي أيضا يقف ويخلع عنه قفطانه وجلبابه الكنسي. أناوله ثيابي وخاتم زواجي ويناولني ثيابه وعصاه. يرتدي هو بنطالي وقميصي وسترتي ويجلس مكاني بانتظار زوجتي وابنتي. أما أنا فأرتدي ثيابه وأتناول عصاه وأرحل إلى الغابات، بحثا عن (دير) لا أعرف عنوانه ولا دروبه، ولكني على يقين أنه هناك وراء الغابات في ذرى الجبال، أبوابه مفتوحة وقلوب رهبانه تنبض بـ (أبانا الذي في السماوات). في أحضان الرب سأقيم، بانتظار رجل هارب من المدينة، يمنحني عائلته وأمنحه ديري.

                     

 

                                                3 قصص قصيرة جدا

سليم مطر ـ جنيف

تشرين 2015

                                                                                 *   *   

                                               ذكريات سوبرمان السكران مع ملايين النسوان!

http://cdn2-www.craveonline.com/assets/uploads/2013/06/Superman-Returns2.jpg

نعم يا اخوتي صحيح انا سكران، لكني مع ذلك ابقى سوبرمان البطل الجبار، ولا احد يضاهيني بقوايا الخارقة. كلكم تعرفوني منذ طفولتكم. أطير باسرع من البرق، وأسمع الاصوات عبر القارات، وأرفع الجبال لفتح الطرق، وأنفخ العواصف لأبعد الغيوم، وأسكب البحيرات لأطفئ الحرائق، وأشيد البنايات باسرع من لمح البصر، وأتلاعب بدوران الكرة الارضية، لأعيد الزمن الى الماضي وأقدمه نحو المستقبل.. وغيرها وغيرها من الخوارق التي قد شاهدتموني بانفسكم افعلها، او على الاقل سمعتم بأنجازي لها.

قد تستغربون أن اكون هكذا سكران وأتأثر بالخمرة رغم اني سبق وان شربت سيول البراكين ومياه البحار، بل حتى امطار غيوم القنابل النووية. لن تصدقوني لو كشفت لكم السبب. نعم سوف تسخرون مني لو عرفتموه. ولكن مع ذلك، وربما لاني سكران، اتجرأ واكشفه لكم:

ـ المرأة .. نعم انها المرأة.. واعتقد بانكم يا اخوتي معشر الرجال ستفهموني اكثر من بنات حواء.

لقد حيرتني المرأة يا اخوتي. بل اني بت مقتنعا، انا الذي عرفت جميع اسرار الخليقة، إذ تجولت في انحاء الكون وتعرفت الى مالا يحصى من سكان الكواكب المختلفة، لم يعصاني حتى الآن غير سرين:

سر الخليقة، وسر المرأة!

الاثنان لم افهم حقيقتهما ولا منطق سلوكهما ولا ما يبتغيان منا نحن البشر، اقصد نحن الرجال.. .

انا اتفهم تماما صاحب ذلك الكتاب الشهير المعنون:

(كل ما كشفه الرجال، خلال آلاف الاعوام من اسرار النساء)

وهو كتاب ضخم، ولكنك عندما تفتحه تفاجأ بان جميع صفحاته بيضاء بلا كلمة واحدة!!!

نعم يا اخوتي انا سوبرمان، وقد عرفت وعاشرت ملايين النساء، ليس من الارض وحدها، بل حتى من كواكب اخرى. واخجل لو كشفت لكم الاسرار الجنسية وممارسات النساء هناك.. المهم اني بعد كل هذه التجارب قررت التمرد على المرأة وعدم الاهتمام بها ابدا و...

ـ نــ..نعـ.. نعم يا حبيبتي ومهجة روحي.. انا جاي.. ماذا؟ تقولين اني كنت اتحدث معي نفسي؟ لا لا عيني.. كنت اسمع الراديو.. نعم نعم.. طبعا عملت المسواق.. افتحي الثلاجة وتجدين فيها كل ما طلبتي مني.. للأسف لم استطع جلب صندوق الكوكا لانه ثقيل علي، وظهري كما تعرفين يا حبيبتي يوجعني هذه الايام..

                                                                                   *     *     *

                                                     موعد مع الشمس

http://g01.a.alicdn.com/kf/HTB12FxXLXXXXXbWXVXXq6xXFXXXO/Cg-digitale-kunst-natur-3d-artistic-12x18-20x30-24x36-32x48-Zoll-plakat-druck-35.jpg

كانت السماء تمطر والغيوم سوداء تحيل الصباح الى مساء معتم.  

وقفت تحت الشجرة المتفق عليها انتظر صديقتي الشمس، التي كعادتها ستأتيني مرتدية حلتها البيضاء الفضية وشعرها الذهبي.

بقيت انتظر وانتظر تحت الشجرة والمطر يغمرني والريح الباردة احالتني الى كتلة من الجليد. لكني رغم ذلك كنت صابرا اتدفأ على خيال حبيبتي الشمس التي لا بد ان تأتيني بنورها ودفئها.

فجأة توقف المطر وبدأت اسمع من بين الاغصان العالية صوتا يناديني:

ـ مساء الخير يا صديقي، ماذا تفعل هنا في البرد والمطر؟
رفعت راسي فلمحت القمر شاحبا بالكاد يظهر بين الاغصان والغيوم. فأجبته:
ـ او يا صديقي القمر، انا انتظر امك الشمس منذ الصباح، واستغرب انها لم تأتيني حتى الآن..
ـ لكن يا صديقي، امي الشمس لا تأتي في الايام المغيمة، وفي المساء تذهب للنوم

فشكرته ورجعت الى داري حزينا. دون ان آكل تدثرت في فراشي وغرقت في نوم متقطع لاني كنت جائعا ومحموما.

في منتصف الليل اذا بي استيقظ على صوت دافئ حنون يناديني:

ـ اصح يا صديقي اصح..

عندما حاولت ان افتح عيني اغلقتهما بسرعة لان نور ساطع بهرني. بقيت لدقائق حتى تمكنت من فتحهما ورؤية صديقتي الشمس مستقرة جنبي على الفراش. عندما عرفت باني محموم وجائع، راحت تمسدني وتبث الدفئ في بدني، ثم قطعت بعض من ضفارئها النورية ووضعتها في فمي، وكان طعمها حلوا ساخنا مثل بيض مقلي محلى بعسل. فاحسست بلذة دفئ وشبع، فشكرتها من اعماق قلبي وقبلتها واحتظنتها وغرقنا معا في نوم عميق حتى الفجر، إذ أستأذنت مني وصعدت الى السماء.

                                                                                                  *     *     *

                                               عندما اهديت القمر لحبيبتي

http://poussiere29.p.o.pic.centerblog.net/f2539419.jpg

عدنا الى الدار انا وحبيبتي بعد ان امضينا يوم احد ربيعي مشمس نتجول في الغابات. استلقيت على الكنبة في الشرفة المطلة على الحديقة. تناولت جريدة امس، واندهشت ان جميع صفحاتها كانت بيضاء الا من اعلان كبيرة يملئ صفحة بكاملها:  

(مخازن الحلم الكبرى) تعلن عن تخفيضات نادرة بسعر القمر.

وقد حدد الموعد في مساء اليوم التالي الاثنين.

شعرت بنوع من الاثارة معتبرا هذا الاعلان استجابة لحيرتي منذ ايام لاختيار هدية مناسبة لحبيبتي في عيد ميلادها. فقلت هاهي السماء تدعوني ان أهديها القمر.

كتمت الامر عن حبيتي. وفي اليوم التالي ذهبت وحدي الى الموعد المعلن في الساعة السابعة مساءا. تبين انها ليلة إكتمال القمر. فعلا وجدت ألا ف الناس مجتمعين في الحديقة الكبيرة المطلة على البحيرة ينتظرون بزوغ القمر مكتملا متلئلئا وسط السماء منعكسا على مياه البحيرة تحيطه النجوم مثل عريس ليلة زفافه.

كان السعر المعلن خارق للعادة في رخصه(99,9) اورو. وبما ان الجميع قادر على الدفع فقد ارتأت ادارة المخازن اجراء قرعة. كل من يرغب يأخذ رقما، ثم الفائز يحق له شراء القمر.

ومن غرابة الصدف ان يكون رقمي ايضا (999). وكانت لحظات ترقب سماع الرقم الفائز ساد صمت بين الجموع المحتشدة، فلا تسمع غير هممهات خفيفة واصوات اطفال وهفيف ريح وقرقعات مويجات البحيرة. فجأة ارتفع من مكبرات الصوت صوت رقيق ضاحك لفتاة تعلن الرقم الفائز. وكان رقمي(999)!

بقيت لحظات صامتا لا استوعب الحقيقة، لولا ان نبهني الذين بجانبي وهم يشيرون الى رقمي.

كانت دهشة الجميع عندما اعلن عن بدء عملية إنزال القمر من اعالي السماء. وفعلا رايناهم يشغلون محركا كهربائي دوار يسحب حبلا معدنيا لم يكن مرأيا قبل ذلك. طرفه الآخر غائب في عتمة السماء. واذا بنا نشاهد حصول ما لم يصدقه العقل:

القمر يهبط بالتدريج حتى طاولة البيع حيث تتجمع سبعة فتياة جميلات ضحوكات مع اوراق ملونة للتغليف. ما ان حط القمر على الطاولة حتى شرعن بكل براعة بتغليفه وربطه بخيوط ذهبية وفضية ملونة على شكل وردة. ثم قامت احداهن وهي شقراء بعيون عسلية، بتقبيلي وتهنأتي وسط تصفيق الحشود واهازيجهم ووضعت القمر المغلف بين يدي.

لم يخطر في بالي ان يكون القمر بهذا الحجم والثقل حتى اني عجزت عن حمله اكثر من عشرة امتار. اضطررت ان آخذ تكسي ليقلني الى بيت حبيبتي. عبر نافذة السيارة انتبهت الى السماء قد اصبحت حالكة والنجوم رغم توهجها صارت شاحبة حزنا على فراق القمر.

عندما فتحت حبيبتي المغلف وشاهدت القمر، ارتمت علي مقبلة شاكرة . ولم اتوقع ان تقول لي:

ـ شكرا لك يا حبيبي، لكني بالحقيقة كنت اظن انك ستهديني الشمس..

لم افهم قولها، أهو تعبير عن دلال ام سذاجة؟ أجبتها بجدية وبنوع من الغضب المكتوم، وانا اغصب نفسي على ابتسامة:

ـ لكني يا حبيتي خفت ان تحرقك الشمس!

وإذا بي استيقظ على قبلات حبيبتي وهي تقول:

ـ اصح يا حبيبي العشاء جاهز. لكن اخبرني بماذا كنت تحلم.. سمعتك تهمس بالشمس والقمر..

فتحت عيني واذا بي اندهش من ان وجهها الذي فوقي تحيطه تماما دائرة القمر في السماء، فبدى وكأنه وجه القمر..

فهمست وانا شبه غائب:

ـ انت قمري يا حبيبتي..

فهمست هي:

ـ وانت شمسي يا حبيبي

              

     

         الحكاية العجيبة للسيدة  التي زارت العالم الآخر!

http://www.coeurconscienceparole.fr/medias/images/new-earth-7.jpg

سليم مطر ـ جنيف

شباط 2016

 
لم يخطر ببالي أبدا، يا إخوتي وأبنائي، أن أعيش هذه الحكاية العجيبة التي تناقض جميع معتقداتي العلمية المادية. أنا "زينب
 " أم لخمسة أبناء بعمر الشباب. أيام زمان، كنت مثقفة ومناضلة يسارية أمضيت عامين في السجن أيام شبابي الأول. رغم هجري للسياسة إلا أني بقيت متمسكة بعقيدتي العلمية التي ترفض الروحانيات وباقي الأمور التي أسميها خزعبلات وخرافات.

بدأت حكايتي العجيبة عندما تلقت عائلتنا خبر مقتل ابني "سلوان" في إحدى التفجيرات الإرهابية التي كثيرا ما تحصل في بغداد وعموم العراق. مثل الكثير من الضحايا لم نستلم أي جثة بل فقط أوراقه الشخصية التي عثر عليها في بقايا ثيابه المنتثرة المحترقة.

لا أحدثكم عن الصدمة القاتلة التي حطمتني، وخصوصا أن "سلوان" أصغر أبنائي وأقربهم إلى نفسي، إذ ما زال صغيرا في سن الخامسة عشرة. رحت أمضي النهارات والليالي وأنا أناجيه وأحلم به. يأتيني ويكلمني ويبكي على صدري ويطلب عطفي وعوني.

رغم إحاطتي الدائمة بزوجي وأبنائي، وبناتي خصوصا، وأقربائنا، إلا أن معاناتي لم تهدأ بل ظلت تتفاقم مع الأيام وأنا أشاهد ابني وأسمع صوته في كل زمان ومكان. ذات صباح، وجدوني ميتة بلا نفس وبلا نبضات قلب. وكان بين الحاضرين ابني "فادي" وهو طبيب، فقام بفحصي والتأكد من وفاتي. كالعادة وضعوني في قاعة الدار وغطوني وبكوا وصلوا ودعوا وعاتبوا وناجوا.

في اليوم التالي أتوا ليضعوني في التابوت وينقلوني إلى المقبرة، وإذا بي فجأة أشهق! لكني مع ذلك بقيت جامدة. لم يصدقوا وظنوا أنهم تخيلوا الأمر، لكنهم عندما وضعوا آذانهم على صدري سمعوا نبضات قلبي. كانت فرحة وهيجان. قام ابني الطبيب وبمعونة أبيه وأخواته، بتدليكي والعناية بي حتى بدأت بالتدريج أصحو. وقبل أن أفتح عيني، كنت أردد بصوت ساحر فيه أنغام دافئة لم تكن معروفة من قبل:


ـ سلوان يمى سلوان، انتظرني آني جايتك.. انتظرني عيني..

لم يفهم أحد ماذا أعني بهذياني إلا بعد أكثر من ساعة حيث استرددت عافيتي وسردت عليهم حكاية زيارتي العجيبة للعالم الآخر:

((عندما نمت ليلة موتي، كنت كالعادة أشاهد وأسمع ابني سلوان يناجيني ويطلب عوني. أنا الذي طلبت من كياني أن يميتني لكي ألبي نداءات ابني. في تلك الليلة استجاب لي كياني وغرقت أثناء نومي في موتي المنتظر. في الحقيقة لم يكن موتا، بل كان صحوة في عالم آخر. قبل أن أفتح عيني كنت أسمع أناشيد ساحرة مزيجا من أنغام قيثار وزقزقة عصافير وضحكات أطفال وتراتيل رجال ونساء، وكأني في سيمفونية كونية تشترك بإنشادها جميع المكنونات. نسيم يهب على كياني أحسه بداخلي كما لو كنت أنا ذاتي نسيما. لم أفتح عيني لأن الوجود كان في أنا وأنا في الوجود. لا أميز داخلي من خارجي. نعم كنت بلا بدن، بل الكون بأجمعه بدني. أحس بوجود الآخرين ليس بحواسي، بل بروحي ومشاعري. رجال ونساء وأطفال، طيور وفراشات وأشجار وأنهار، قصور بلورية منثورة في أراض وسماوات. نصلي ونغني ونتبادل محبة بأصوات بلا كلمات. ملذات عشقنا في أرواحنا، ورعشات نشوانا تحلق بنا في أعالي الذات.

لا أدري كم أزمان مضت ومضت تفوق ملايين الأعوام. كنت هنا منذ الأبد، بل أنا الأبد. ماضيّ حاضري، ومستقبلي حاضري، لا شيء غير الحاضر، لحظة وجود أبدية بلا بداية ولا نهاية.

لكن روحي هاجت فجأة وتذكرت أنها ما أتت إلا من أجل سلوان. وينك عيني سلوان. تعال حبيبي أنا تركت الدنيا وجيتك. وينك سلوان؟ ظلت روحي تجول في الأنحاء تنادي سلوان. حشود المخلوقات كلها تشاركني ندائي:

ـ وينك يا سلوان؟

ويعم الصدى في أقاصي الكون:

ـ وينك يا سلوان؟

وإذا بي فجأة أشاهد "سلوان" مقبلا نحوي ودموع الفرح في عينيه. قبل أن أفكر هبت روحي إليه. ما أن أصبحنا بمقربة حتى فرق بيننا حاجز غير مرئي يفصلنا. ارتعبت ورحت أضرب بكل كياني ذلك الحاجز وأنشد تراتيل مناجات لإله الكون ليحررني وأعانق ابني. لكني انتبهت إلى صوت سلوان وهو يخاطبني:

ـ يمى سامحيني، آني مو وياك بالآخرة.. آني مريض وتايه. جيت اقلك ارجعي يمى للحياة وخلصيني من ضياعي.. آني مريض وتايه..

ثم اختفى سلوان وبقيت وراءه أصداء كلماته الأخيرة:

ـ ارجعيلي يا يمى .. ارجعيلي وخلصيني يمى..

وأنا أناديه:

ـ أي عيني ومهجة روحي، فهمتك يمى، آني جايتك))..

وها أنا أصحو من موتي لكي أخبركم يا أعزائي أن أخاكم سلوان لم يمت، بل هو ضائع في بغداد. عندما كان يأتيني ويخاطبني في أحلامي، لم يكن من دار موته، بل من دروب ضياعه...

وفعلا في ذات الساعة هب جميع أفراد عائلتنا وأقاربنا وحتى جيراننا وكل من يستطيع معرفة سلوان حينما يراه، ومعهم صوره، وانتشروا في أنحاء بغداد، في جميع المستشفيات ومراكز الشرطة ودور العجزة والمجانين. وفي الأزقة بين المشردين. وفي البساتين والأبنية المهجورة. وبعد ثلاثة أيام، جاءوني بحبيبي سلوان. وجدوه فاقدا للذاكرة إثر الانفجار، وحيدا في بستان مهجور يعيش على الثمار المتساقطة وعطايا المحسنين. وكان الناس يعطفون عليه لأنه كان دائما يبكي وهو ينشد بعبارة واحدة وحيدة:

ـ وينك يا يمى.. وينك يا عيني ومهجة روحي.. وينك يا يمى تعالي خلصيني..

        حادثة مرعبة:

   جريمة في هايدبارك البصرة!

 drole

سليم مطر ـ جنيف

تشرين الاول 2015

هذه القصة حقيقية ستحدث في البصرة ربيع 2070

عند ناطحة سحاب منارة جامع البصرة الكبير، هبطت (مسز صبيحة) من سيارتها الكاديلاك الخضراء يرافقها صديقها الجديد(اللورد مهاوي) وهو انكليزي حفيد عراقي مهاجر يدعى(زاير مهاوي)، ليتنزها في الحدائق الغناء المطلة على شط العرب والتي يطلق عليها مجازا اسم(هايدبارك البصرة). وكان يتبعهما الخادم الامريكي(مايكل) المتخصص برعاية الكلبة الصغيرة(مياومياو) وهي هدية مسز صبيحة بمناسبة عيد ميلادها الثلاثين، من خالتها (الليدي فحطانة) ملكة جمال العالم لعام 2060.

كان صباحا ربيعيا مشرقا ملونا بشجيرات وزهور تنشرعبقها الممتزج بزقزقة عصافير واغاني اطفال روضة البصرة يتنزهون مع معلمتهم الشابة.

توقفت المسز صبيحة لتعدل حجابها الجميل المزركش بصور ملونة لشبان وشابات عاريات على شاطئ البحر. فاستغل اللورد مهاوي الفرصة لكي يمسك كفها ويطبع عليها قبلة رقيقة حارة وهو يهمس:

ـ اني حقا لسعيد برفقتك يا عزيزتي في مدينتك الساحرة.

فابتسمت وهي ترد عليه بهمسة ارق:

ـ وانا اسعد يا لوردي العزيز.. قل لي بالمناسبة، هل تزمع اداء فريضة الحج هذا العام؟

ـ لا يا عزيزتي، ساذهب لزيارة الامام الرضا.. بالمناسبة انا ادعوك لصحبتي وساكون حقا سعيدا لو قبلت.

ـ لما لا ، انا اوافق، واقترح ان نستغلها ونعمل جولة سياحية في افغانستان القريبة من مدينة مشهد..

ـ انها لفكرة رائعة لم تخطر ببالي. ستكون فرصة لكي اعرفك بابنة عمي (البروفسورة طاقية) سفيرة العراق في كابول. انا متأكد انها ستفرح كثيرا بلقاء كلبتك(مياومياو) لانها تعشق الكلاب الصومالية.

توقفت المسز صبيحة وهي تشير ناحية جزيرة صغيرة في وسط شط العرب:

ـ إنظر، اكيد انك سمعت وقرأت عنها.. انها(جزيرة المنقبات)..

ففغر اللورد فاهه قائلا:

ـ اوه.. يا للروعة، نعم طالما حلمت بزيارتها.. هل هذا ممكن؟

ـ لا يا صديقي انه المستحيل.. كما تعرف انها جزيرة خاصة للقاء المنقبات من انحاء العالم الاسلامي. بالحقيقة انهن يأتين لاخذ حريتهن بالتعري على الشاطئ وبين البساتين. لهذا يطلقون عليها(جزيرة المنقبات العاريات). وهي طبعا ممنوعة على الرجال، ولكن هنالك الكثير من شبان البصرة المغامرين الذين يدخلونها بثياب نساء ونقاب.. ومن يكتشف امره، يتلقى مئات الصفعات على خلفيته من اكف النساء انفسهن، ثم يطرد. ويقال ان الكثير من الشبان يغامرون، فقط من اجل تلقي الصفعات على خلفياتهم من اكف المنقبات. عجيب امركم ايها الرجال!

وانطلق الاثنان في ضحكة مشتركة وهما يتعانقان وسط شجيرات الزهور والعصافير.

فجأة اهتز الفضاء بصرخات استغاثة اثارت الرعب في مسز صبيحة وصديقها اللورد والاطفال ومعلمتهم.. واذا بالخادم مايكل يأتيهم باكيا نادبا:

ـ مياو مياو.. الارهابيون اختطفوا مياومياو..الارهابيون..

واذا بمسز صبيحة تنهار من هول الصدمة وكادت ان تتهاوى على الارض لولا اللورد الشجاع الذي تماسك اعصابه والقاها بحنان على الارض واضطجع فوقها، ينفخ في فمها ويمسد صدرها ويفرك نهديها لكي تستعيد وعيها.

وسمع صوت المعلمة وهي تهدئ من روعة صغارها قائلة:

ـ اطمئنوا يا اعزائي، ان قواتنا الباسلة ستضمن سلامة الكلبة وتحررها من الارهابيين الوحوش. هلموا يا اعزائي وتعالوا نصلي الى الله لكي ينقذ الكلبة المسكينة.

سرعان ما ازدحم الهايدبارك بعشرات سيارت النجدة من مختلف الميليشات المتواجدة في البصرة، من امثال: قوات فرحة الزهرة، سرايا الصدر للطفولة البريئة، كتائب كاكا حكيم للدفاع عن المحبين، عصائب اهل البزخ والزحلاوي. الخ..

حينها استفاقت المسز صبيحة من غيبوبتها، وتم تهدئة الخادم مايكل الذي سرد التفاصيل:

ان (منظمة الدولة الاحلامية) قامت باختطاف الكلبة مياومياو، وتركوا بيانا يطالب بتطبيق القوانين المعروفة بقوانين (كاكا مسعود الثالث)، التي سبق وان اقرها البرلمان العراقي بخصوص (حقوق المثليين) وبالذات حقهم بتكوين موكبهم الخاص بهم في عاشوراء واللطم الرقيق باطراف اصابعهم، والضرب بزنجيل خيوط الحرير، والصراخ اللطيف:

((اوي اوي عيني، فدوة اروحلك..))

وقد امهلوا سلطات البصرة سبعة ايام، وبعدها سيتم قطع ذيل الكلبة مياومياو بصورة علنية ببثه في فلم انترنت من اجل جلب انتباه الراي العام العالمي على معانات المثليين في البصرة وحرمانهم من ابسط حقوقهم الدينية!

وفي هذه الاثناء وصل مكان الحادث محافظ البصرة المعروف بصرامته وتدينه الشديد، الاستاذ(حنا صليوه الموسوي)برفقة حرمه (العلوية ام جورج) التي راحت تواسي مسز صبيحة بحرارة ودموع رقراقة.

وقد تقرر اعلان الحداد العام لثلاثة ايام في انحاء محافظة البصرة، وانتشرت صور مؤلمة للكلبة مياومياو وهي نائمة على صدر مسز صبيحة الامومي العامر. وانتشرت في كل مكان لافتات تضامنية سوداء مكتوب عليها عبارة واحدة:

ـ نحن قادة ومعارضوا البصرة وعموم العراق كلنا مياومياو

                                    يحق لمن يرغب ان يعيد نشر هذه القصة وجميع نصوص الموقع بشرط ذكر اسم الكاتب
  
هذه القصة جزء من رواية ( تاريخ روحي)  القصصية.
ولقد نشرت في الصحف قبل استيلاء داعش على نينوى بسنوات عديدة، وكأنها كانت تتنبأ بذلك. لاحظ ان البطلة "حواء" تمثل الموصل التي قتلها اعداء الوطن، ولكنها تبقى حية خالدة من خلال ابنتها واحفادها.
  وكان من المؤمل اخراج هذه القصة كفلم عراقي من قبل(عمانوئيل توما)، ولكن المشروع متوقف بسبب اعداء الوطن والوحدة الوطنية!!!؟؟؟؟؟
 
   
وداعـا يا نينـــوى .. مع حبــي الــى الابـــد

                                                        سليم مطر

  15

قررت زيارة بلادي بعد غياب أعوام في أوربا. صحيح إني كنت تواقًاً لزيارة أهلي ومرابع طفولتي في بغداد، إلاّ أن رغبتي الكبرى كانت أن أشاهد معبودتي (حواء).

رغم مرور حوالي الثلاثين عام، وتعرفي على نساء عديدات ثم حياتي مع زوجة طيبة، إلاّ أن صورة (حواء) بقيت دائماً حيّة في مشاعري. لم أحاول ولا مرة أن أتخيل متغيرات العمر عليها. كانت دائماً هي ذاتها في روحي. وجهها الطفولي ووجنتاها الورديتان وعيناها العسليتان وشعرها البني، لا تكف عن التوهج في خيالي ساعات الحنين إلى بلادي وأهلي. كانت (حواء) هي المصباح المتألق لماضٍ حزين مظلم. كم تحسرت في أعماقي لأني لا أستطيع أن أشاهدها مرة أخرى. كنت في كثير من الأحيان أنتبه لنفسي هامساً:

((آه لو ألتقيها مرة وحدة.. مرة وحدة بعمري.. مرة وحدة..))!

عندما وصلت الى بغداد، منذ اليوم الثاني بعد لقاء عائلتي، رحت أستفسر عن مصير حواء. أتاني الخبر اليقين بعد أن زرت أخيها الأكبر الذي لا زال يقطن في قصر العائلة الذي أصبح خراباً:

ـ هي تعيش في نينوى، في مدينة الموصل، مع زوجها التاجر وأبنائها الكثار.

لم أتجرأ أن أطلب من الأخ عنوانها ولا أية معلومة عنها تدلني عليها. فكرت ربما أحاول في زيارتي القادمة. لكن الزيارة صارت صعبة بعد أن وقع الأخ مريضاً.

يا إلهي من المستحيل أن أقاوم رغبة لقائي بحواء. أن أكلمها وأبوح لها بتعلقي الأبدي بها، وكيف أمضي عمري وأنا أنتظر لقائها. أبداً لم أحلم أن أستلبها من زوجها، ولا حتى أن أغازلها، بل أقصى ما أتمناه أن أراها، نعم أراها وأكلمها لا أكثر. بل أقبل أن أراها ولو من بعيد، من بعيد البعيد، حتى من دون كلمة. فقط أن أراها لا أكثر، ثم أتركها لحالها وأعود محملاً بكنز رؤاها، مثل مهاجر يحمل تربة بلاده إلى موطن غربته. هنالك في هجرتي الأبدية، سوف أزرع ذكرى رؤاها، نخلة في روحي.

بعد معاناة وانتظارات وترددات اتخذت أخيراً قراري:

أن أسافر إلى نينوى، من دون أي أسم أو عنوان. قلت:

إن كان قلبي صادقاً في حبي لحواء، فإنه يقيناً سوف يدلني عليها. وإذا لم ينجح بذلك، فحينها سوف أقتنع بأن حبي لها كان محض أوهام مرضية لا تستحق كل هذا العناء..

                                                                   *   *   * 

قبل سفري إلى الموصل نصحوني بأن أخفي هويتي الأجنبية، فالمغترب أكثر عرضة للمخاطر والانتقام والخطف. تدبروا لي هوية عراقية مزورة، وأخفيت في بطانة سترتي جوازي الأجنبي.

هذه المرة الأولى التي أزور فيها هذه المحافظة. تخيلتها كثيراً من صورها وما قرأته عنها. سكنت في فندق، مدَّعياً بأني أستاذ قادم من بغداد كي ألتحق بعملي الجديد في الجامعة. قررت أن أمضي هناك أسبوعاً واحداً فقط، وإذا انتهى الأسبوع من دون نتيجة، سوف أرجع إلى بغداد كي أعود إلى مأواي في أوربا وأنا مرتاح قانع بأن قلبي كان طيلة أعوام وأعوام يعيش الوهم.

ابتهجت عندما وجدت فندقي قريباً من (مرقد النبي يونس)، أشاهده من نافذة غرفتي، معتبراً ذلك علامة خير. فكنت كثيراً من الأحيان أمرق على الجامع لأتأمل البناء وقبته ومئذنته، وأراقب الناس الذين لا يكفّون عن الازدحام للصلاة حتى في أوقات حظر التجوال والتفجيرات والاغتيالات التي لا تنقطع.

عادت لي ذكريات الوقائع العجيبة في حكاية (النبي يونس) التي تعلقت بها في طفولتي، ذلك النبي الطيب الذي لم يؤمن به أهل نينوى وما صدقوا نذيره لهم. يأس منهم فهجرهم، ثم اضطر أن يغرق نفسه في البحر ليكفر عن خطيئة تخليه عنهم. لكن الله أوحى للحوت بابتلاعه وحفظه في باطنه حتى أنزله حياً على الأرض. بعدها رجع إلى أهل نينوى الذين عادت الرحمة إليهم بعد عقاب الرب والخراب الذي حلَّ فيهم.

كنت في كل صباح قبل أن أغادر غرفتي، أغمض عيني، وأخاطب نفسي:

ـ يا قلبي إذا كنت صادقاً فعلاً في حبك الذي شغلتني به كل هذا العمر، قدني إلى محبوبتك.

ثم أترك قلبي وأقدامي تقودني في دروب نينوى.

لم أدع بقعة من المحافظة إلاّ وزرتها. أحياء مدينة الموصل، والبلدات البعيدة المنتشرة بين جبال الشمال وبوادي الغرب. كنت وحيداً أتجول محمياً من قلبي رغم كل الحواجز والمخاطر وعمليات الخطف والتفجير التي تبث الرعب في نينوى كلها.

في كل مرة كنت أعود إلى فندقي، أشكر قلبي لأنه قادني في دروب السلام. لكنه ما توقف عن تذكيري بأن أيام الأسبوع تمضي وما زال لم يدلَّني على محبوبتي.

طيلة الليالي الستة ما توقفت عن عودتها تلك الأحلام القديمة المنسية التي امتلكتني السنوات الطوال في غربتي ثم تلاشت مع الزمن. أجد نفسي خائفاً تائهاً في شوارع الوطن التي يملأها رجال غرباء مدنيون وعسكريون مدججون بأسلحة ونظرات ترعد بموت يسألون الناس عن هوياتهم. وفي كل مرة كنت ألجأ إلى الهرب واللهاث في أزقة الوطن وعيون الحراس تطاردني، وأنا أجهد لإطلاق صرخاتي المكبوتة بحثاً عن هويتي الأصلية التي لم أدرِ أين فقدتها. وكالعادة مهما اختلفت تفاصيل المشاهد ووجوه الناس والحراس، فإن الحلم كان ينتهي باختناقي وأنا أغرق وأغرق في بحر هائج يسطع بزرقة لا زوردية تمتزج بسماء بنفسجية نحاسية وغيوم بيضاء سوداء..

 

                                                                 *   *   * 

ها هو اليوم الأخير يحل. إنه يوم جمعة وقد قررت أن أغادر نينوى إلى الأبد. ها أنا أكتشف خداع قلبي الساذج. تركت حقيبتي في الفندق على أمل العودة ظهراً بعد ترتيب أمر تأجير السيارة التي ستقلني إلى بغداد.

كان صباحاً متوهجاً بخضرة ربيعية شقراء تنتشر في الأنحاء. عادت إليَّ صور ذلك الحلم المتكرر الذي ظل يزورني طيلة الليالي السابقة. لكني انتبهت أن هنالك خاتمة جديدة مختلفة ظهرت لي في الليلة الفائتة. حاولت كل مستطاعي أن أستعيدها، لكني فشلت..

بقيت أسير متمهلاً محاولاً تذكّر الطريق الذي يقودني إلى الكراج. ها قد تكشَّفَ لي بأن كل آمالي بلقاء معبودتي كانت محض أوهام بأوهام:

((آه لو تعرف يا قلبي كم أنا خجل منك لأنك قد خدعتني طيلة هذه الأعوام. ها هو يومنا السابع والأخير وقد حل دون أن تدلَّني على التي ما كفت نبضاتك تهمس باسمها منذ أزمان)).

كنت أحس بمشاعر مترددة بين خيبتي لعدم بلوغ مرادي وتحقيق حلم حياتي، وارتياحي لتحرري من وهم أثقل عليَّ طيلة عمري. تارة أعاتب قلبي لأنه ظل يخدعني طيلة تلك الأعوام، وتارة أشكره لأنه أخيراً كشف لي عن وهمي.

بقيت أمشي عن غير قصد غارق في تأملات عابرة وخيالات وأفكار تزدحم في روحي. إذا بي أنتبه إلى أني قد أضعت طريقي. وجدت نفسي في حي أنيق تنتشر فيه بيوت غنية قديمة الطراز تشبه (منطقة السعدون) في بغداد حيث كان بيت (حواء).

كان الوقت يقترب من الظهيرة وشمس الربيع تزداد سطوعاً وحرارة، فبدت الدروب خالية إلاّ من بعض المارة. فجأة لم أدرِ كيف انبجست ذكريات صباي، أيام كنت ألوب مثل ذئب جريح بحثاً عن أية فرصة للقاء محبوبتي. يا إلهي إنها ذات الأحاسيس وكأني لا أزال كما أنا في عز فتوَّتي. آه من جدار الفقر العملاق الذي كان يقف شامخاً مثل جبل أمامي يفصلني عن أميرتي القاطنة في قصرها الاسطوري.

هنالك في البعيد بدا في نهاية الشارع الفرعي قصر ضخم يشبه إلى حد بعيد ذلك القصر الذي كانت تعيش فيه (حواء) أيام زمان. رحت أقترب دون أن أتجرأ على إظهار تحديقي المبالغ خشية أن أثير الشكوك والمشاكل.

فجأة رأيت فتاة شابة تخرج من هناك بصحبة صبي. كانا يتجهان نحوي. بدت الشابة مثل كل النساء في هذه الفترة ترتدي ربطة على رأسها وثياب طويلة وقورة. كلما اقتربت، بدت ملامحها تتكشف عن حقيقة مذهلة لم أكن حتى أن أتجرأ على الحلم بها:

إنها حواء.. نعم حواء نفسها كما تركتها منذ ثلاثين عام! حتى صوتها الذي سمعته وهي تنادي الصبي:

ـ تعالَ عيني.. امشي..

جفلت لأول وهلة معتقداً بأنها تخاطبني. استعدت توازني عندما أدركت إنها كانت تعني الطفل. يا الله هو نفسه ذلك الصوت الرنّان بأنغامه الطفولية وصداه المعدني مثل ناقوس صغير. كم بدت غريبة في تلك الربطة السوداء التي كانت بالكاد تخفي خصلاته. يا له من انعكاس خلاّب بين السواد والشقرة:

((كيف حصل هذا؟ إنها هي ولا يمكن أن أخطأها إطلاقاً. من الممكن أن أشتبه بكل الناس حتى بأمي وأبي، بل وحتى بنفسي، لكني أبداً لن أشتبه بحواء. رسمها محفور في كل خلية من كياني. أدرك وجودها حتى من بين مليون امرأة. لا زالت هي نفسها برشاقتها ومحياها الطفولي الباسم رغم حزن عجيب طاغ))!

كدت أن أصرخ بها:

((حواء.. حواء.. أما تتذكريني.. أنا صديق صباك، أنا الفتى المعتوه الباحث عن رضاك.. أنا الطيب، أنا الحالم، أنا المعذب بجفاك))..

لكني تمالكت نفسي متذكراً حالي والوضع الذي أنا فيه. شعرت بنار شعواء تلتهب في أحشائي. ألسنتها ذكريات وذكريات عشتها طيلة سنوات صباي. كنت في عز شغفي مثل غريق أتحين أية فرصة كي ألتقط حتى لو لحظة واحدة أتمكن بها من مشاهدة حواء، أن أقترب منها، أكلمها. لكن مانع الفقر كان لعيناً جباراً مثل وحش جهنمي يحرس بوابة النعيم:

((يا الله كيف الآن بعد كل تلك الأعوام وأنا رجل ناضج، أعيش ذات المعاناة، متردد ضعيف أمام ذات الموانع التي ظلت تحرمني من الاقتراب من معبودتي. يا الله رحماك، أنا أبداً لا أبتغي أي حرام، فقط أكلمها لا أكثر، أبوح لها بشجون حبي المخبوء في أعماق روحي مثل جمرات تحت رماد. حواء أنت ملاكي، أنت أختي وابنتي ونبع حناني. يا رب اغفر لي كفري بك وتمردي عليك في أول شبابي لأنك لم تساعدني في حبي لها. أنا الآن رفيقك الوفي، أناجيك مثلما أناجي صديق حنون. رحماك يا إلهي ساعدني هذه المرة ولبّي دعوات حبي. وأنت يا قلبي الملتاع المرتجف، أرجوك اهدأ قليلاً، ما لي أراك تعود لخفقان صباك، كما كنت أيام حبك المعذب. اطمئن يا صغيري، ثق بي، فأنا لم أعد ذلك الفتى المعتوه، ألا تراني أمامك قد أصبحت رجلاً مجرباً بعد تلك الاعوام الطوال من الشوق والانتظار. أرجوك اهدأ اهدأ، ودعني أرى دربي))...

انتبهت إلى حواء قد مرقت وصارت خلفي، وعليَّ أن أعود إليها.

توقفت حائراً، ولم أتجرأ أن ألتفت. بقيت، تارة مستمراً بسيري، وتارة أتوقف، ثم أسير، حتى اتخذت أخيراً قراري أن أعود وأنا أصطنع حركة توحي وكأني قد تذكرت شيئاً. أخرجت أوراقي كما لو كنت أبحث فيها، وأنا أتقدم خلف معبدوتي والصبي الذي معها.

دون شعور، وجدت نفسي أعود لدور قديم قد نسيته تماماً في أوربا:

((آه، ها أنا أتبع فتاة.. أية لذة وإثارة في متابعة المحبوب. تجتمع فيها كل ملذات التوق والتحدي والترقب مثل طفل قلق يخشى على سلامة أمه)).

سنوات المراهقة أمضيتها وأنا أتبع حواء أثناء ذهابها وعودتها من المدرسة، وأثناء خروجها مع أخواتها. لم أنس محاولاتي الفاشلة أن ألتقط لها سراً صورة أحتفظ بها قرب قلبي. أتفقت مع صديقي الحميم (عماد التلكيفي) وأستأجرت (كامرة) وأختبئت وراء إحدى أشجار (بارك السعدون) وألتقطت لها خفية صورة أثناء عودتها من المدرسة. لكن الصورة ظهرت خالية، وكان من الصعب تكرار المحاولة.

ابتسمت ساخراً من نفسي:

((أأتجرأ الآن أن ألتقط صورة لها؟ أيسمح لي عمري بمثل هذه الخطوة الصبيانية. شكراً لك يا قلبي لأنك قد قدتني إليها. أعرف الآن أنك أبقيتني طيلة الأيام الماضية، كي تهيأني لتقبّل هذه الحظوة التي لم أحلم بها. اعذرني لأني لمتك، يا قلبي ومنبع حبي.. هاهي معبودتي لا زالت كما هي شامخة زاهية مثل بستان. آن الأوان يارب أن تنفخ في صورك العظيم لتبعث الروح في جثمان حبي. وأنت ياطائر العنقاء انطلق من أعماق قلبي وحلق في أعالي الأكوان وخذني هناك بعيداً بعيداً نحو جلال الرحمن))..

                                                                    *   *   * 

لم أدرِ كم أمضيت من أزمان وكم اخترقت من دروب وأنا أتبعها مثل بدوي مسحور بسراب جنان. إذا بي أخيراً أنتبه فجأة إلى أني في مقبرة؟!

رأيت حواء جاثية والصبي جنبها يلوب حائراً. لم أفهم أول الأمر ما يحصل، واحتجت إلى بعض الوقت كي أدرك أنها أمام قبر. رأيتها تخرج من حقيبتها قطعة قماش وتنظف ظاهر القبر، ثم تضع بضعة شموع وتشعلها. وشرعت تردد صلوات وأدعية وهي تبكي. جزعتُ وكدتُ أن أتجه إليها لأشاركها حزنها:

((أوه يا عيني يا روحي ليش تبكين.. أرجوك كفي عن النحيب.. ترى دموعك حمم لهيب تجري في صدري.. أرجوك يا حواء أرجوك..)).

لمحت من بعيد صورة معلقة على شاهدة القبر. حاولت أن أقترب كي أراها، لكني خشيت أن أجلب انتباهها. ما الذي يمنعني أن أكلمها؟ يا الله كم أنا خائف. لم أحسب أبداً بأني هكذا أعود من جديد إلى ذات المشاعر الجياشة القلقة القديمة، التي ظننت إني قد تخلصت منها إلى الأبد أثناء حياتي في أوربا.

هبت ريح وشرعت السماء برش رذاذ مطر، فانطفأت الشموع وشرع الصبي بالعويل، وحواء لا زالت تصلي وتبكي، بينما كنت جاثماً متكوراً كحيوان برّي بين القبور. مشاعر جياشة كانت تتلاعب في روحي مثل ريح تعصف في قصر مهجور. وفي اللحظة التي قررت فيها أن أتجه إليها، رأيتها تنهض وتمسك يد الطفل وتركض متعثرة بين الصخور.

بقيت حائراً متردداً أن ألحق بها أو أتجه الى القبر لمعرفة هويته. حينما حسمت أمري ونهضت راكضاً لأشاهد الصورة بسرعة ثم ألحق بفتاتي، تعثرت رجلي وسقطت على الأرض وارتطم رأسي بحافة القبر. شعرت بوجع في جبهتي وقد سالت دمائي على التربة. لم أستطع أن أمنع عيناي من النظر إلى تلك الصورة، فكانت صدمة ما بعدها من صدمة.

شاهدت وجهاً مألوفاً لأمرأة! إنه مألوف إلى حد بعيد بعيد مسَّ شِغاْفْ قلبي وأشعل نيراناً في أعماقي. من هي هذه السيدة؟ إني أعرفها بكل يقين.. لم أصدق، رحت أزحف كي أتيقن، لكني كنت أحدس بمصيبة:

((رحماك يا ملائكة الرحمة والمحبة، رفرفي عليَّ واجعلي نسمات الصبر تهب على قلبي الحائر. أحس قواي تنهار وكياني يرتعد))..

نعم إني بكل يقين أعرف هذه السيدة!

زحفت أكثر وأكثر وأنا أدعوا كل قوى الكون الطيبة أن تعينني لأدرك خطأ ظنوني.. لا.. لا إنها هي.. لم أدرك كم مرة ومرة ومرة قرأت العبارة المكتوبة تحت الصورة:

حواء القادر (1956 ـ 2007) استشهدت في حادث تفجير......

((مستحيل.. يقيناً إني واهم. كيف يكون هذا قبر حواء، وأنا كنت أراها بعينَي هاتين منذ لحظات. هنالك خطأ ما. ما زالت حواء حيَّة شابة خالدة هنا في قلبي.. هنا في نينوى.. هنا في هذه الدنيا. حواء حية، نعم إنها حية)).

امتزجت دموعي ودماء جبهتي بقطرات المطر وأطيان المقبرة.

دفعت القبر عني كأني أريد أن أتخلص من تلك الحقيقة المرعبة التي تواجهني. قمت مثل ميت ينهض من تابوته، ورحت أركض وأركض، هارباً من حواء القديمة الميتة، عسى أن ألحق بـحواء الحية الشابة والصبي الذي معها. لاح أمامي نهر دجلة فياضاً نحاسياً متوهجاً بحمرة شفق وغيوم حبلى برعود وبروق. حينها فقط تذكرت ذلك المشهد الجديد الذي اخْتُتِمَ فيه حلم الليلة الماضية:

بينما كنت أغرق كالعادة في تلك الأمواج العاتية، ظهر لي من الأعماق كائن جبار عجيب.. إنه يشبه.. نعم.. بل كان هو ذاته.. الحووووت!

 

                                                                     *   *   * 

وداعاً يا نينوى.. وداعاً.. بعيون دامعة أودعك قلبي ومأوى حبي..

يا زهور الربيع أنبتي على تربة ذكراي وانتثري في بساتين شبابها الأبدي..

يا عصافير الحب غرّدي في ليالي وحشتها وأسمعي قلبها أغاني عشق مؤجل..

وأنت ياشمس، بددي بأنوارك ظلمات عزلتها، ولتتوهج بك دروبها أينما سارت.

وأنت يا يونس، يا أخي، يا نبي تقي، انهض، اخرج من حوتك، وانثر دعواتك..

اسند منارتها الحدباء، واجعل دجلتها غزيراً بحب ومياه..

وداعاً وداعاً يا موطن قلبي..

وداعاً يا حواء..

وداعاً يا نينوى.. مع حبي إلى الأبد.. 

 هذه القصة جزء من رواية( تاريخ روحي ) القصصية.

                   قصة: السيدة الخرساء وقصر العزلة

سليم مطر ـ جنيف

18

في أثناء زيارتي لبلادي في نهاية عام (2004)، بعد غياب إجباري دام بالضبط (25) عاماً، سرد لي صديق هذه الحكاية العجيبة وقد عايشها هو عن كثب، ولم يخطر ببالي أبداً أن أعايشها أنا بدوري وتقع خاتمتها على رأسي!

كان هذا الصديق ولنسمه (ص) من معارفي القدماء أيام شبابي الأولى قبل هجر الوطن. علاقتنا بدأت أوائل سبعينات القرن الماضي، في أثناء نشاطنا في أحد الأحزاب اليسارية. أتذكر أننا في أثناء حملة الحكومة ضد اليساريين أواخر السبعينات، اتفقنا على الهرب من الوطن سوياً، لكنه ظل متلكئاً خائفاً حتى ألقيَ القبض عليه، بينما بقيتُ أنا مختفياً فترة، إلى أن تمكنتُ من هجر الوطن نهاية عام (1978). ومنذ ذلك الحين انقطعت الاتصالات بيننا، لكني سمعت أنه قد خرج من السجن بعد أشهر؛ حيث وافق على الاعتراف والتوقيع على تخلّيه عن حزبه، ثم أصبح عضواً في حزب البعث، وتدرَّج في التنظيم وتقلَّد مسؤوليات عديدة في الأجهزة الإعلامية. كنت أتابع أخباره بين حين وآخر؛ إما من خلال أصدقائنا القدماء، أو من خلال نتف الأخبار الصحفية التي كانت تنشر صورته كمسؤول إعلامي وحزبي مهم. في أواخر أعوام التسعينات، سمعتُ أنه هجر العراق والتحق بالمعارضة. حاولتُ كثيراً الحصول على وسيلة للاتصال به في الخارج، لكني لم أنجح. سمعت أنه كذلك كان يبحث عني، وكدنا أن نلتقي يوماً في عاصمة عربية، لكن سوء الصدف حالت دون ذلك.

وأخيراً تم الأمر بعد سقوط النظام؛ حيث اتصل بي من بغداد ليخبرني أنه قد عاد إلى الوطن مع المعارضة؛ ليتقلد من جديد نفس منصبه الإعلامي السابق، لكنه هذه المرة كان ينطق بخطاب جديد عن (الديمقراطية وحقوق الانسان وجيوش الحلفاء)! أصر على دعوتي للالتقاء به في زيارتي القادمة إلى الوطن.

ها أنا ألَبّي دعوة صاحبي (ص)؛ لأستعيد معه ذكريات ماضينا المشترك. بعد أيام من عودتي، عندما كنت جالساً معه في أحد مطاعم بغداد، فجأة لكزني قائلاً:

ـ شوف هذا الرجّال، شوفه قبل ما يروح.

عندما نظرت بالاتجاه المقصود، لمحتُ رجلاً طويل القامة يرتدي معطفاً أسود غالي الثمن رغم الإهمال الذي عليه. بدا شعره سرحاً كثيفاً يلمع بشيب فضي جذاب تشوبه القذارة. له شارب رقيق منمق، ووجهه شاحب بصفرة مرضية حادة مليئة ببقايا جروح لم تلتئم بعد، وشارب فضي رفيع أنيق يناسب بشرته البيضاء بذلك اللون الحليبي الذي يتسم به أبناء الطبقة العليا الذين لم تمس بشرتهم الشمس. عيناه بدتا من وراء النظارة الطبية تعبتان متورمتان رغم ألَقْ عتيق وبقايا نظرات جريئة وقحة. لم أستطع أن أقدّر عمره، لكنه يظهر في الخمسينات. من الواضح أنه كان في زمانه نجماً وسيماً من أبناء المجتمع الراقي، رغم الانحطاط الصحي والنفسي البادي عليه.

بعد المطعم لبَّيتُ دعوة صاحبي (ص) لتمضية تلك الليلة في بيته الواقع في أطراف بغداد، على أمل الاستماع إلى حكاية ذلك الرجل الذي ظلت صورته عالقة في ذهني لسبب لا أعرفه.

فوجئت أن بيت صديقي ما هو إلاّ قصر شامخ في وسط بستان شاسع كثيف مطل على نهر دجلة. طيلة الليل وحتى إطلالة الفجر، رحت أستمع إلى تلك الحكاية ونحن مستلقون في إحدى غرف القصر مفترشين أبسطة الحرير، وقربنا مدفئة غازية تمنحنا الدفء في برد كانون القارص. رغم أن (ص) قد أصبح متديناً يصوم ويصلي، إلاّ أنه ظل متسامحاً في الكثير من الأمور؛ فقد فتح أمامي صندوقاً في الحائط كان عبارة عن (بار) يحتوي على عدد كبير من قناني المشروبات الكحولية الأجنبية والراقية جداً، وهو يخاطبني مبتسماً:

ـ يا عزيزي، مثلما تعرف آني والحمد لله متوقف عن الشرب، لكني أقدر أمزمز وياك شوية، احتفاءاً بلقائنا التاريخي. أرجوك، اخدم نفسك مثلما يعجبك.

فوجئ عندما أخبرته أني متوقف تماماً عن الشراب والتدخين لأسباب صحية؛ ولهذا اتفقنا على تناول الماء والشاي. فظلَّت طيلة المساء والليل تعبق في المكان نكهة الشاي العراقي المعطر بالهيل، مع أنواع الحلويات.

لولا ثقتي بصديقي (ص) ويقيني بأنه يقول الحقيقة التي سمعها وعرفها، لما صدقت قصة ذلك الرجل الغريب الأطوار المدعو (س) مع تلك السيدة الغامضة العجيبة، اسمعوا إذن هذه الحكاية:

السيد (س) كان شخصية مرموقة أيام البعث، مهنته الحقيقية هي (السمسرة)؛ أي بصورة أدق (تاجر غواني)! ولكنها تظل مهنة كان معروفاً بها في وسط ضيق، أما في الوسط العام فكان يشتهر بصفات أخرى أكثر احتراماً: مثقف ذائع الصيت، حزبي كبير، رجل أعمال بارز، مسؤول دولة مهم، وهي مهن قد زاولها حقاً، لكن مهنة (السمسرة) تبقى هي المهنة الحقيقية الثابتة والأصيلة التي زاولها رغم سريتها وكتمانها عن عموم الناس.

من الواضح أن (س)، بعد سقوط النظام السابق، يعيش شتاء حياته بعد أن تبدد مجده مع تبدد الدولة التي رعته. لكن المقربون منه يعرفون أن عذابه لم يكن لهذا السبب وحده، بل بسبب آخر مَسَّهُ في الصميم من روحه، ألا وهو فقدانه لأعز إنسانة على قلبه، تلك (المرأة الخرساء) التي بغيابها فقد كل أسباب البقاء في دنيا صارت غبراء لا يذوق منها غير مشاعر حسرة ونقمة وعار. كل الذي أصابه بعد الاحتلال من تدمير قصره واغتصاب أملاكه وحرمانه من جاههُ وسلطانهُ وتشريدهُ وتحويلهُ إلى حطام إنسان، كل هذا ما كان يهمَّه ولا آلمه، لو أنهم تركوا له تلك (الخرساء)!

كان لقائه بها قد تم في ظرف خاص جداً. بعد حرب الكويت في يوم ربيعي من عام (1991)، كان (س) في زيارة شخصية لصديقه (ن) مدير شعبة مكافحة التجسس في دائرة الأمن العامة. عند باب المكتب لَمَحَ صاحبنا سجينة تمرق من أمامه خارجة وهي مكبلة المعصمين يقودها شرطي. هكذا خطفت ومسته بلا اهتمام. خلال لحظات قابل وجهه وجهها فتقابلت نظراتهم. شعر حينها خلال زمن قد لا يتعدى ثانية واحدة، أن برقاً قد توهج في روحه. لا يدري ما الذي أثاره فيها، لعلها نظراتها، رغم سكون ووجع ظاهر عليها، إلاّ أنه خلال تلك اللحظة أحَّس فيها وهجاً من كبرياء. دون وعي منه زفر وكاد يصرخ بها، إلاّ أنه سخر وتمالك غضبه. ظاهرياً لم تكن تتميز بأي خصلة تجلب الانتباه. كانت امرأة عادية، يمكنك أن تجد ملامحها في الكثير من نساء العراق؛ وجه حنطي، وعيون عسلية، وشعر حني، وقامة تميل إلى الطول.

خلال لحظات، تناسى (س) المسألة عندما انطلق صديقه المدير بضحكته العالية المرحبة، وهو يترك مكتبه ويتقدم ويحتضنه. رغم بعض الهاجس الذي كان يتردد خافتاً مكبوتاً في صدر (س) ويدفعه إلى السؤال عن شخصية تلك المرأة، إلاّ أنه سرعان ما انغمر في لجَّة الحديث مع المدير الذي كان ذا شخصية مزاجية متقلبة. تراه في نفس الوقت يمتلك طاقة غضب وحقد تجعله ينهار على المعتقلين تعذيباً حتى الموت، فإنه سرعان ما يستريح ويتناول الهاتف ليلاطف ابنته المشلولة ويبث كلمات حنان لزوجته، ثم ينادي أحد مساعديه الجلاّدين ليسأله عن أحوال عائلته ويساعده في حل مشاكله ويشاركه في أحزانه!

أمضى (س) زيارته العادية إلى صديقه وعاد إلى الدار، لكن الليل عندما يحل يصيب التعب حراس العقل فينسحبون تاركين خبايا النفس تنهض من أعماق سجنها لتجول في كيان الإنسان على هواها. لقد عاف النوم السيد (س)، أول الامر لم يفطن إلى السبب، ثمة مشاعر غامضة بدأت تبعث في دواخله كآبة ثقيلة، حنين إلى مجهول وتأنيب ضمير إزاء خطايا منسية، بقي يتقلب مثل محموم، وسط العتمة رأى على السقف وجه تلك السجينة مرسوماً بظلال وخيوط ضوء. حاول أن يسخر من الأمر:

((أنا الرجل العابث القابض بكفي على حشود نساء من مختلف الأشكال والأجناس وأجهل حتى أسماء الكثير منهن، كيف لسيدة مجهولة سجينة عادية وضيعة أن تحرمني من نومي))؟!

سيدة لم يشاهدها أكثر من لحظة واحدة، مَرَقَتْ مثل برق خاطف لا يمكنه أن يترك أثر في سماء روحه. قال: لعله في الحقيقة غاضب من ذلك الكبرياء الكامن في نظرتها الخاطفة، أو ربما من تجاهلها له، أو ربما من ذلك السكون الواثق الذي تنطق به ملامحها!؟ لكن الوجه راح يتكرر في أنحاء الغرفة، على السقف وفوق الجدار وحتى على الأرضية. وعندما أغمض عينيه انبثق في داخل رأسه وجه نسوي حنطي عادي، أليف قريب إلى القلب، عينان عسليتان متوهجتان مثل نجمتين، أنف منساب مثل درب، شفاه نحيفة بليلة مثل ساقيتين، أما شعرها فقد غمر وجهه بمويجات نسيم ساحر انساب في دمه.

ها هو السيد (س) وحيد على سريره وسط ظلام قصره، كطفل مهجور مرتعش منكمش على نفسه! لم يكن أمامه غير أن يترك غرفته ويجلس في الشرفة. كان بيته الذي يسميه (قصر العزلة) في منطقة (ج) في أطراف بغداد. على مرتفع يطل على نهر (دجلة) محاطاً ببساتين نخيل وحمضيات كثيفة، وأمامه عند الضفة المقابلة تمتد مزارع حنطة وعبّاد شمس خلال عدة أميال لتنتهي ببادية على مدى البصر. في عتمة تلك الليلة البليلة بضياء بدر وهّاج بين نجوم.. هناك لاح وجه السجينة!

أمضى السيد (س) ساعات في الشرفة مع السكائر والخمرة، وهو كئيب قلق غاضب حائر. لأول مرة بعد غياب طويل، تعود إليه تلك المشاعر التي طالما عانى منها وَمَقَتَهْا، ونجح في التخلص منها في الأعوام الأخيرة: مشاعر عار وإثم؛ لأنه لم يهتم بمعرفة مصير تلك السجينة!

كيف أتيح لتلك المرأة النكرة أن تغزوه هكذا في عقر روحه؛ تحرمه من نوم وسكينة؟!

راح يلوم نفسه؛ لأنه لم يرد عليها، كان على يقين أنه لو عنَّفها، ودفعها احتقاراً، أو على الأقل نظر إليها شزراً، لما تسربت إليه مثل هذه المشاعر المتعبة.

                                         *   *   * 

فجأة انقطعت الحكاية مع انقطاع الكهرباء وانتشار الظلام في الغرفة وفي أنحاء القصر. عندما قام صاحبي (ص) ليجلب المصباح؛ قمت أنا وفتحت الشباك لأتطلع في ظلمة الخارج. كان الصمت يخيم على البستان ولا تتخلله غير أصوات مويجات دجلة القريب وزقزقة حشرات وهفيف خافت لسعف نخيل تتلاعب به الريح. عدت الى مكاني بعد أن عاد صاحبي ومعه مصباح غازي نوَّر المكان، وهو يعتذر عن عطل (مولدة الكهرباء) الخاصة بقصره، بسبب المطر، ثم افترشنا الأرض وعاد إلى حكايته:

قبل أن تستغرب معنى تأثر (س) بنظرات كبرياء خاطفة أطلقتها سجينة مجهولة، وخصوصاً وهو في مهنة أشد ما تكون بعيدة عن العواطف الرقيقة ولا مشاعر الكبرياء. يجب أن نعرف أن السيد (س) رغم أنه (سمسير) محمَّل بخطايا مهنته التي لا تعد ولا تحصى، أقلها الكذب وأكبرها الإسهام بجرائم اغتصاب وتعذيب وقتل، لكنه أيضاً امتلك ما يكفي من الثقافة والذكاء ما يجعله قادراً على فلسفة مهنته؛ بحيث إنه كان يعدَّ نفسه، إن صح القول: شريفاً!

يقيناً إن هذا الوصف يدعو إلى السخرية، لكنه حقيقي؛ فهو يعدُّ نفسه شريفاً؛ لأنه أحب مهنته وجهد لإتقانها والإبداع بها، بصورة لا تخطر على البال. ثم إنه لم يشعر في حياته أنه ضحية، بل على العكس فإنه يعدُّ نفسه أشبه بطبيب مشرف على علاج ضحايا، كما كانت تردد إحدى بناته (نقصد إحدى الغواني العاملات معه):

ـ ((إحنا أبداً مو مرضى ولا نستحق الرعاية والعطف، المرضى الحقيقيون اللّي يستحقون الرعاية والعطف هم الرجال اللّي يعانون الكبت والحرمان فيجون إلنا إحنا ممرضات اللذة؛ حتى نعطيهم ما عندنا من علاجات.. أي عيني.. السمسار طبيب لذة وإحنا البنات ممرضات علاج طبيعي، وزبائننا مرضى حرمان وكبت))!

باكراً في الصباح توجه (س) إلى دائرة الأمن، وجد صديقه المدير متعباً قليلاً وقد انتهى تواً من وجبة تعذيب صباحية قبل الفطور. سرد عليه بكل صراحة حكاية أرَقَهُ وعذابات ليلته. ضحك المدير كثيراً وهوَّن عليه، وأبدى استعداده أن يمنحها إليه لساعات؛ ليفرغ فيها غضبه وشهوته. تلكأ (س) ولم يدر بماذا يجيب. يقيناً إن المسألة لا يمكن أن تتعلق بهيجان جنسي؛ لأنه بكل بساطة منذ أعوام طويلة مصاب بـ (عجز جنسي)، وقد نجح بإخفاء هذا السر حتى عن أقرب أصدقائه. لعله كان راغباً بالانتقام منها وإذلالها، لكن مشاعراً لعينة بالإثم ظلت تجول في أعماقه، وهذا أمر لم يتعوده منذ سنوات طويلة، منذ أن تخلّى عن ماضيه الوضيع ودخل عالم المجد والسلطة!

عندما لاحظ المدير تردد (س) اقترح أن يقدم إليه ملفها؛ لكي يطَّلع عليه براحته ثم يقرر موقفه منها. ثم بكل رحابة صدر تركه وحده في المكتب يتصفح إضبارتها التي كان أقل ما يقال عنها إنها (عجيبة)!؟ لا بد إنها كانت قد تعرضت لعبث وتمزيق، فالتقارير التي لا تحصى المكتوبة عن هذه السيدة السجينة، تبدو متناقضة وبلا منطق، كأنها كتبت من قبل أشخاص من كل الأجناس والمهن والأعمار، وفي حقب مختلفة. ليس هنالك تقرير واحد يجزم بحقيقة هوية هذه المرأة؛ فكل تاريخها وأصلها مجهول، بل لا أحد يعرف حتى اسمها، وقد أطلقوا عليها تسمية (الخرساء)؛ لأنها صماء لم تجب بكلمة واحدة رغم كل الإذلال والتعذيب. ما عرفوا عنها أي شيء، ولم يتمكنوا أن ينتزعوا منها أية معلومة؛ فبالإضافة إلى خرسها فإنها لم تبدِ أية علامة على معرفة القراءة والكتابة. ثمة آراء متضاربة حتى عن تاريخ ومكان العثور عليها. بل إن أحد التقارير يؤكد أنها كانت سجينة منذ أوائل تأسيس الدولة العراقية؛ أي: منذ أكثر من سبعين عاماً، علماً بـأنها ما زالت في ريعان الشباب؟! هنالك تقرير يقول إنهم قد عثروا عليها منذ أعوام في البادية الغربية تجول تائهة وحدها. بعض آخر يقول إنهم عثروا عليها معتكفة في مغارة في جبال الشمال، وآخر يدَّعي أنها من أهل الأهوار، وآخر يظن أنها من عائلة بغدادية عريقة!

لم يشاهد (س) في حياته مثل هذا الملف العابث، هذا الغموض العجيب الذي يحيط بهوية إنسان. من بين كل هذه التناقضات والملابسات الغرائبية هنالك شيء واحد تتفق عليه جميع التقارير: إنها إنسانة مريبة؛ لأنها بين حين وآخر وهي نائمة تهذي بكلمات غامضة توحي بمعرفتها بأسرار خطيرة، عن مؤامرات وانقلابات واغتيالات وحروب وأحداث عديدة لا يعرف بها غير رجال الدولة الكبار؛ ولهذا فإنها متهمة بالتجسس، وقد أمضت كل هذه السنوات على أمل أن تخضع ذات يوم وتعترف عن مصدر معلوماتها.

أصابت الحيرة (س)، أمام هذه المرأة اللغز قال: ما له والمتاعب، ليدعها وشأنها تتدبر حالها مع سجّانيها. لكن قوارض الإثم ظلت تنبش في ضميره الذي خاله قد مات منذ أعوام طوال، كأن مصير هذه المرأة قد تعلق بقراره هو وليس غيره، كأنه يعرفها ويعرفها ويعرفها منذ أن وُلدَ، بل ربما في حيوات سابقة، كما يدَّعي المصدقون بتناسخ الأرواح؛ هل كانت معبودته.. أخته.. أمه.. ابنته.. توأمه؟!

بعد مداولات مع صديقه المدير واتصالات بالهاتف مع المسؤولين الكبار، تم التوصل إلى حل: أن يأخذ السيد (س) تلك الخرساء معه إلى قصره لفترة ما، وهنالك يتصرف بها كما يشاء؛ فلعله إن امتلكها وأشبع نزواته منها سوف يتخلص من الحيرة التي كبلته بها. لكن سيادتهم فرضوا شروطاً عدة، أهمها أنها لن تغادر القصر أبداً ولن تتصل بأحد غير السيد (س)؛ أي: أن تبقى سجينة تحت رعايته، وأن يجلبها لهم متى يطلبون، ثم أن يخبرهم في حالة حصوله على أية معلومات تخص هويتها وتاريخها.

                                                  *   *   * 

فجأة اهتزت غرفتنا بضجيج حاد اخترق هدوئنا وأزال خدرنا. انتفضتُ متسائلاً عن الأمر، لكني فوجئت باستمرار صاحبي على وضعيته وعدم مبالاته بالضجيج وكأن الأمر طبيعي. وخاطبني بهدوء قائلاً وهو يتناول استكان الشاي:

ـ ما كو شي.. أكيد طائرات أمريكية تحاصر مخابئ مسلحين.

أحسست بالخجل وكأني كشفت عن ضعف في حساسيتي، فعدت إلى جلستي وأنا أصطنع الهدوء واللاّمبالاة. وعاد (ص) إلى حكايته:

قبل أن أسرد عليك الفصل المهم من حكاية (س) مع تلك الخرساء العجيبة التي أذهلته بأسرارها وأخذته معها في أسفار عجاب جعلته يغور في متاهات سرمدية من سؤال وجواب. لكي تكون على بينة من الأمر، أرى من الواجب أن أكشف لك أولاً بعضاً من تاريخ (س) الشخصي. لا يخفى عليك بأنه كان من جماعة صدام، وعمله كله مع قادة النظام ورجالاته. قد يبدو الأمر طبيعياً بالنسبة للكثيرين، لكن بالنسبة له لم يكن بهذا الوضوح؛ فكان يشعر في أعماقه بأنه قد خان مبادئ شبابه وتنكَّر لقيمه وطموحاته. خدع وتجسس وتملق وسبب الأذى للكثير من الأبرياء. لكنه كان أيضاً بين حين وآخر ينقاد لذلك الميل الغامض الذي قد يستحق أن يسمى ضميراً، ويدفعه لمساعدة المظلومين ما أن تحين له فرصة. كم من المغضوب عليهم خلَّصهم من غياهب سجون أو من قرارات موت محقق، وكم من القتلة والسفلة تدبر لهم المقالب وبعثهم إلى قيعان جهنم!

عاش (س) حياته الأولى مثل الكثير من أبناء العراق، في ضنك العيش وقسوة الحياة. يقال إن الجوع لا يمكنه أن يحيا وحده، بل عليه أن يتنفس الإذلال لكي يدوم. والمشكلة أن هذا الإذلال لا نعانيه من أصحاب الجاه والمال قدر ما نعانيه من أبناء جلدتنا من الجوعى وضحايا الظلم. الجميع يشتركون بإذلال الجميع كأنهم ينتقمون بذلك من سادتهم بعيدي المنال. الآباء يذّلون الأبناء، الكبار يذّلون الصغار، الرجال يذّلون النساء، المعلمون يذّلون التلاميذ، الموظفون يذّلون المراجعين، هكذا في شبكة جهنمية من الإذلال اليومي العلني والمتستر. أما (س)، فمنذ أن استقوى عوده وبدأ يدرك هذه الحقيقة المرة، قرر أمام ربه وضميره أن يتمرد على جوعه وذله؛ ولهذا قرر أن يبحث في الكتب عن دروب الخلاص. أصبح مثقفاً عاشقاً للمطالعة والكتابة. ومع الأيام قادته الكتب إلى خيار الماركسية فأصبح شيوعياً في أول شبابه بداية السبعينات. تعلَّمَ أن يقدس الفقراء ويحلم بالثورة التي سوف تحررهم من الظلم. راح يقرض الشعر ويدبج المقالات النارية عن الثورة القادمة.

لكن حماسة الإيمان هذه سرعان ما انهارت عند أول تجربة اعتقال عاشها (س) في أواخر السبعينات وهيمنة صدام على الدولة. صحيح أنه صمد وتحمل مختلف أنواع التعذيب وحتى الاغتصاب، إلاّ أن الأيام وأخبار هروب القادة الى الخارج وخيانتهم لقضية الثورة والكفاح، جعلته يفقد الأمل تماماً وينتكس وينقم على كل ماضيه النضالي. خلال ظلمة السجن بدأت الحقيقة المرة تظهر له: لقد اغتصب منه الجلادون فحولته. أصبح خصياً وفقد كل الصلابة والقدرة على المعاشرة. صارت ذكورته لحمة ميتة. حاول المستحيل لكي يمارس عادته السرية. لم تنفعه حتى الصور الخليعة التي حصل عليها من المعتقلين. أصابه هذا الأمر بالرعب، وجعله يواجه تلك الحقيقة المرة التي طالما أجَّلَ مراجعتها في أعماقه. رغم شبابه وثقافته إلاّ أنه حتى سجنه لم يكن قد تذوق طعم المرأة. علاقته بها ظلت مبهمة وغامضة. إحساسه بها إرتبط دائماً بقضية الجوع والحرمان. لن ينسى، كيف إنه ذات يوم في أول مراهقته كان يشتغل تحت شمس بغداد الحارقة والجوع قد أنهكه والعرق ينزف من جبينه ويحرق عيونه. كان لحظتها يشتهي برد الظلال وصحن من الرز والمرقة أمامه يلتهمه بلذة. إذا بشابة ترتدي (ميني ﭽوب) تخطف من أمامه تتمايل بشموخ بأفخاذها البضة البيضاء. فجأة من دون شعور تكونت صورة واضحة ملونة أمامه مثل شاشة سينما: الفتاة عارية تماماً وقد تحولت الى دجاجة مشوية في صحن الرز والمرقة!!

منذ ذلك اليوم، وهو يمارس عادته السرية على تلك الصورة الطريفة الشاذة!!

أما الآن في عتمة السجن والعزلة فان إكتشافه لحقيقة إخصائه قد هزَّ كيانه من أساسه ولوَّثَ علاقته بالحياة بكل تفاصيلها. خيبته برجولته جعلتهُ ناقماً على الله وعلى الأحزاب وعلى المثقفين والسياسيين وعلى جميع الذين يتشدقون بوعود الخلاص. أصبح كتلة من الحقد والرغبة بالانتقام من كل رجال بلاده، جميعهم، الجلادون منهم والضحايا. راح يمضي وقته منعزلاً عن باقي المعتقلين وهو يبحث عن أي طريقة لإرضاء شهوة الانتقام التي كانت نار جهنم تحرق بكيانه. تخيل تفجير القنابل وسط الحشود واغتيال الناس بالسكين وتسميم مياه الشرب وخنق الاطفال بالمهود واغتصاب النساء بالقضبان.. الحقد وحده كان يمنعه من الانتحار.. الانتقام وحده كان يغذي فيه نسغ الحياة!

أخيراً اهتدى الى حل جهنمي يضمن سلامته وديمومة حياته وبنفس الوقت التشَّفي بعذابات أعدائه. بالصدفة عثر على قطعة جريدة ممزقة فيها مقال عن الروحانية الآسيوية. كان يؤكد على ان الله عندما يريد أن ينتقم من مِلَّة، ليس بالضرورة أن يسلط عليها الجوع والحرمان، بل يمكن أن يسلط عليها البطر والتخمة. لحظتها أتاه الوحي:

((لأكافحنهم بـتخمتهم وبطرهم. إن كان شبقهم هو الذي جعلهم يغتصبوني ويقتلون فيَّ رجولتي، فإني بـ (الشبق) ذاته سوف أنشر سموم الموت والتفسخ في كيانهم.. بالشبق سوف أنخر أرواحهم وأستولي على عقولهم وضمائرهم وأقتل الرجولة في أبدانهم. بالشبق سوف أستحيل الى شيطان يغوينهم حتى حتوفهم..))..

لكي تنطلق خطته الجهنمية، قرر أن يبدأ بالانتقام أولاً من رفاقه الذين خدعوه بوعودهم الخلابة. بدأ بالاعتراف عليهم وتوريطهم صدقًا وكذباً واحداً بعد الآخر. أطلقوا سراحه بعد أن وقع على انتمائه للبعث. لم يكتف بالاعتراف والتجسس على رفاقه، بل راح يلاحق رفيقاته السابقات ويتلذذ بالإيقاع بهن ليشارك رجال الأمن بتعذيبهن واغتصابهن. كان مهووساً بالانتقام من نساء أولئك الذين خدعوه بمشاريعهم الزائفة. مع الزمن راح يصطاد النساء هنا وهناك، أي نساء، ويصطنع لهن أية تهمة ويقدمهن لمن عذبوه. كان يحس بلذة غامرة بمجرد أن يقدم النساء البريئات الضعيفات إلى أولئك الجلادين. محنة السجن أظهرت إلى السطح حقيقته العميقة التي نجح خلال سنوات النضال أن يغطيها بشعارات وأحلام عذرية: إنه يقدس الأقوياء ويحتقر الضعفاء. كما يردد هو أحياناً في حالة ثمالته، أنهُ مازوشي مع الأقوياء وخصوصاً الجلادين ويتلذذ بخنوعه لهم، وهو أيضاً سادي يتلذذ بسحق الضعفاء وإذلالهم وخصوصاً النساء. هكذا إذن، دخل السجن مناضلاً ومثقفاً ثورياً وخرج منه مخصياً وبعثياً وسمسيراً وفياً لمهنته. صار واضحاً إن المهنة الوحيدة التي تناسبه والتي بها سوف ينتقم ممن أخصوه، أن يكون: سمسيراً..

بصورة أدق: سمسيراً مثقفاً وسياسياً محنكاً...

                                                       *   *   * 

ـ لازم الأمريكان ابتلشوا بجماعة كبيرة!

عندما سمعت هذا التعليق من صديقي (ص)، تصورت لأول وهلة أنه مستمر بسرد حكايته! احتجت لوقت لكي أدرك انه كان يتحدث عما يجري خارج القصر. حينها فقط انتبهت إلى نفسي إلى أني كنت متناسياً تماماً ضجيج القصف والطائرات، مع استمرار صاحبي بسرد تلك الحكاية! أدركتُ مستغرباً كيف أني قد أرغمت نفسي بشكل غير واعٍ على عدم الاستماع إلى دمار الخارج، بسبب خشيتي أن أكشف عن ضعف في حساسيتي. فهمت من (ص) إن هنالك قريباً من البستان ثمة حرب دائرة بين الجيش الأمريكي ومجمومة من المسلحين. وكما بدى لي من خلال صديقي أن هذا أمراً طبيعياً قد تعوَّدَ عليه العراقيون ولا يستحق منّا وقفة ما.. ثم عاد إلى حكايته:

مع الأيام إتقن السيد (س) مهنته واكتسب مهارات جديدة جعلها أداة لتغيير حياته بكاملها. بعد الجلادين اتجه إلى المثقفين من أبناء طبقته. بدأ يرسل لهم بغوانيه لإغوائهم وكسبهم لصالح طموحاته بالصعود والانتقام من ماضيه. ثم توصل إلى الإداريين من مسؤولي الثقافة في الصحف ومؤسسات الدولة والحزب. كان يختار مدير الجريدة الفلانية ويرسل له إحدى شغيلاته، لتعود مع قرار تعيينهِ صحفياً من الدرجة الأولى. ثم من خلال بناتِه أقنَعَ بعض الكتّاب المغضوب عليهم، أن يشتري منهم مواضيعهم وترجماتهم، وينشرها باسمه. مع الزمن أصبح إسماً كبيراً في عالم التأليف والترجمة، وكل هذا ساعده على الصعود السريع في مراتب الحزب.

بحكم ثقافته الواسعة وسفرياته المتنوعة، اقتبس فنون الإغواء والبغاء الغربية. خلق شبكة واسعة من الغواني من مختلف الألوان والأجناس، خصوصاً من بلدان المعسكر الاشتراكي السابق. علَّمهن كيفية إغواء الرجال ومساعدتهم على اكتشاف ملذاتهم المجهولة. من خلالهن عَرَفَ إن الغالبية الساحقة من رجال الدولة والحزب والطبقة المثقفة لا يختلفون عنه في حالته النفسية. كانوا ساديون قساة لا يرحمون مع الضعفاء، ورعديدون ضعفاء مع الأقوى منهم. يقال إن الرجل الحسّاس المجبر على ممارسة القسوة في وظيفته، بحاجة إلى تعويضها وتفريغ شحنة الخنوع المكبوتة بأية وسيلة كانت، ومن أفضلها وأسهلها هي التعرض للإذلال والعذاب الجنسي من قبل امرأة طاغية تشبه الأم. لهذا علَّم (س) غوانيه كيفية القيام بدور الأم الطاغية واستعمال فنون التعذيب بالأدوات الخاصة التي استوردها من أوربا: السياط والقيود والمقاعد الخاصة والأعضاء من الكاوشك والأقنعة والثياب الجلدية، وقد أضاف إليها (نعال المرأة البلاستيكي) كخصوصية وطنية. لإشاعة ثقافة (السادية ـ المازوشية) هذه وأوصى بترجمة المقالات والكتيبات التي تتحدث عن هذا السلوك، واستورد عشرات الأفلام الجنسية المتخصصة بمثل هذه الحالة.

مع الأيام تعوَّد غالبية مسؤولي الحزب والدولة والجيش والشرطة والنخب المثقفة والمتعلمة أن يزوروا شقق (س) السرية ليتعرضوا إلى الإذلال والشتم والتعذيب الجنسي على يدي الغواني. ثقفَّهم بمختلف الخيارات المعروفة في مباغي أوربا. بعضهم يعامل كأمرأة وهو يرتدي سراويل النساء، وبعضهم يعامل كطفل ينام في الكاروك (المهد) وفي فمه ممَّة الحليب وأمه البغي تهدهده وتصفعه ثم تمارس له العادة السرية. وآخرون يفضّلون أن يمثلّوا أدواراً وضيعة وقاسية مختلفة تتناسب مع مهنتهم الأصلية. فالجلاد يحب أن يمارس دور سجين معذب، والمعلم يمارس دور تلميذ مذنب، والحاكم يمارس دور متهم محكوم بالإعدام. بل أحد السادة المسؤولين المعروفين بجرأتهم في مكافحة المتمردين وسحق رؤوسهم بعصاه، كان يعطي مسدسه المملوء فعلاً بالرصاص لكي تهدده الغانية حتى إنه يقتنع حقًا أنها سوف تقتله فيشرع بالبكاء والرجاء وينطق بالشهادة استعداداً للموت.

مع الزمن صارت قيمة الغانية وأجرتها تحدد بمدى قبولها بالقيام بدورها الإذلالي والتعذيبي حتى أقصى الحدود. فالسيدة (سوسو) مثلاً كانت باهظة الثمن ومرغوبة جداً لأنها كانت تجمع بين قوة الشخصية وبرودة الأعصاب ومهارة الإمتاع، فهي أثناء قيامها بأطفاء السكائر على أبدان الراغبين أو تهديد البعض بالسكين لحد تجريحهم، فإنها بنفس الوقت، كانت قادرة على مداعبتهم بحنكة ودهاء بحيث إنهم كانوا يبلغون ذروة اللذة رغم أوجاع الحروق والجروح!

كم كان (س) يحس بالمتعة والتشفي وهو يتفرج، عبر نافذة خفية، على الرجال المعروفين بأنَفَتِهِمْ وبطشهم وكبريائهم التلفزيوني، واحدهم يولول شاكياً مثل ولد، بينما إحدى الغواني تجلده بالنعال الوطني على مؤخرته المكشوفة!

كل هذا مَكَنَ (س) أن يفرض سطوته في مجالات الدولة والحزب والثقافة. بحفلة مجون واحدة تتناثر فيها البنات والخمرة والحشيشة، كانت تلبّى له أعجز المطالب.

من خلال وساطة إحدى بناته التي لا ترد لها كلمة اختار الحزب أحد كتب (س) من ضمن برنامجه للتثقيف الإجباري، وكان كتاباً شيقاً ومفيداً عن تربية الشبيبة وأخلاق المجتمع القومي الجديد!

                                               *   *   * 

لأول مرة انتبهت إلى صاحبي (ص) يتأثر بضجيج القصف ويقطع حكايته مرتبكاً، عندما أحسسنا فجأة باهتزاز القصر بعد سقوط قذيفة قريبة منه. قام وفتح النافذة، ثم عاد ليطمئنني قائلاً بأن القذيفة لم تمس داره، بل سقطت في البستان المجاور. جدد لنا قارورة الشاي وجلب لنا فطائر (كليجة) وقنينة ماء معدني، وعاد إلى سرد حكايته:

بعد أن اطلعت على مختصر سيرة (س)، يمكن الآن أن نعود إلى قصته التي ابتدأت مع تلك السيدة الخرساء. ذلك اليوم أخذها مباشرة من دائرة الامن إلى بيته (قصر العزلة)، فهو أمين تحت رعاية حارس مسلح ومحاطة بسياج مراقب بالعديد من أجهزة الإنذار. في هذه الدار كان يزاول وحدته عندما يتعب من صخب بغداد ومن نشاطاته الثقافية والسياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى مهنته الأساسية طبعاً.

سَلَّمَ (س) السجينة إلى الخادمة زوجة حارسه وأوصاها بالعناية بها وترتيب غرفة لها. تركها هناك ونزل إلى بغداد وانشغل في نشاطاته المعتادة حيث يمضي الليالي في شققه العديدة. كانت الحياة في بغداد التسعينات تزداد اضطراباً وصعوبة بسبب الحصار وفرار العديد من كوادر الدولة والحزب والنخب المثقفة والمتعلمة إلى الخارج هرباً من الوضع المتفاقم سوءاً وفقراً. في خضم هذه الأمور كاد (س) ينسى خرسائه تماماً ولم يفكر حتى بالسؤال عنها. بعد مضي أكثر من أسبوع في إحدى الليالي وجد نفسه يطلب من سائقه أن يمضي به إلى (قصر العزلة). كان مخموراً محشوشاً تعباً نعساً فذهب إلى سريره مباشرة وبدأ يغرق في نومه..

لم يدرِ كيف بين الحلم واليقظة بدأ يتهادي إليه صوت غناء. كان ترنيماً حنوناً، من شدة إلفته ظنه يأتيه من دواخل أحلامه. بالتدريج مع تنامي انتباهه بدأ يدرك أنه ليس بحالم وأن الغناء يأتيه من خارجه. لم يتبين إن كان أنثوياً أم ذكورياً، لكنه كان شجياً بموّال عراقي حزين لم تتضح كلماته. مثل همس طفولي يتصاعد بعتب صداقي حتى يبلغ مداه في نحيب جياش ومناجاة يائسة راحت تقطع نياط قلبه. انتبه (س) إلى دموعه قد بللت مخدته. انتفض ونهض غاضباً. هذه المرة الأولى التي يبكي فيها هكذا بكل ضعف وبؤس. لقد خان العهد الذي قطعه على نفسه في معتقله لحظة قرر فيها أن يعترف ويقلب تماماً صفحة حياته السابقة: بأن لا يدع الحزن ومشاعر الأثم تجتاح قلبه ولن يترك عينيه تدمع أبداً حتى لو قطَّعوا أوصال الكون أمامه!

لم يكن يدرك من أين يأتيه ذلك الصوت. فكر ربما الخادمة قد نست المذياع في إحدى الغرف، فاتجه إلى القاعة وسط الدار وراح يتنصت ويتبع مصدر الصوت. كلما اقترب كانت النغمات تتضح أكثر فأكثر. رغم غضبه وإصراره الواعي على الرفض، إلاّ أن موجة حنين راحت تتصاعد في روحه. وجد نفسه أمام باب غرفة لم يغلق تماماً. من الواضح الآن أن الأنين لم يكن في مذياع. دفع (س) بحذر الباب. كانت الغرفة معتمة إلاّ من ضوء فجر منساب عبر نافذة مفتوحة. هناك على حافة النافذة بدت ظلال إمرأة جالسة موشَّحة بأنوار سماء فضية شاحبة. راح يقترب بحذر وهدوء وهو مجذوب مسحور. ظلت تغني وهي ترمق السماء كأنها تناجي قمر ونجوم متلألئة. عبر ضباب الفجر الواهي ظهرت ظلال بساتين تحيط بنهر دجلة، مع حقول حنطة وعباد شمس وبادية بعيدة وأفق لا ينتهي. خيّل لـ (س) إن الطبيعة كلها، النخيل والاشجار والنهر والبادية والفجر والريح، كانت هي التي تشدوا عبر حنجرة المرأة. للحظة حانت من المرأة التفاتة نحو (س)، فعرف أنها سجينته الخرساء! ما إن لمحته صمتت وعادت ترمق السماء وكأنه غير موجود.

هل من المعقول أنها هي نفسها؟! كيف يقولون عنها خرساء وهي تصدح بهذه التراتيل التي لم يسمع مثيلها. اقترب منها أكثر ليتأكد من صحة رؤيته، حتى لمس كتفها، ومن دون تفكير كلمها وهو مبهور مبهوت:

ـ يا سيدتي.. هذه أنت.. أرجوك استمري بغنائك.. استمري..

لكنها ظلت صامتة جامدة وهي ترمق السماء. من دون وعي توجه نظر (س) معها بحثاً عما يشغلها. هناك في الأعالي شاهد القمر ونجمة الصباح (الزهرة) متلألئان في عينيها. حينها فقط شعر أنه أمام إنسانة غير عادية!

                                             *   *   * 

اضطررت أن أقطع كلام صاحبي (ص) معتذراً، لأني بدأت أشم رائحة حريق. صحيح أن ضجيج القصف والطائرات لم يتوقف، إلاّ أني أرغمت نفسي على تجاهله، لكن الحريق قد يكون خطره مباشر. وقف صاحبي وراح يجول في أنحاء الغرفة وهو يتشمم، ثم عاد ضاحكاً وهو يقول:

ـ لازم أوربا أثَّرت بيك ياعزيزي.. صاير حساس جداً.. حرق الكليجة تتخيله حريق..ها ها ها..

لم أخبركم بأني منذ ساعات بدأت ألاحظ على صاحبي (ص) تغييرات بطيئة على ملامح وجهه كلما استمر في سرد حكايته. لا أدري كيف؟ ثمة تغييرات طفيفة قد تكون بتأثير العتمة وتلاعبات الضوء الغازي. بدأ كما لو أنه أصبح أكثر حزناً وأكثر رقة وأكثر تأثراً بما كان يسرده من وقائع.. أقول كما لو إن كان بصورة ما معني بما كان يجري لبطله (س).. لا أدري كيف أصف لكم شعوري.. أعترف أنه أمر مبهم وصعب الإيضاح.. ربما ستفهمونه مع مجريات الحكاية..

أزاح فطائر الكليجة عن المدفأة، وعاد إلى حكايته:

منذ تلك الليلة، بدأت حياة صاحبنا تتغير. راح يعود كل ليلة إلى (قصر العزلة) مخموراً محشوشاً، فقط لكي يتنصت الى شجى السيدة الخرساء. رفضت أن تغني بحضوره، أو بحضور أي كان، ولا في أية ساعة، بل فقط عندما يهلُّ الفجر. تجلس إلى النافذة وسط العتمة وتصدح مناجية القمر ونجمة الزهرة تودعهما وهما يغيبان مع إشراقات الصباح. كان (س) كل فجر يفتح بابها بحذر ويحبوا على الأرض ويختبئ مثل طفل ليجلس في العتمة قريباً من النافذة، ويمضي ساعة أو أكثر في غيبوبة أنغامها. كانت تغني بمختلف الألحان الشائعة. يأتيه شدوها تارة رقيقاً حنوناً يعبق بنسيم فوّاح من ثمار أرض وضباب سحر وهمس أحبَّة، وتارة حاراً جياشاً يصدح بعواصف وأمواج وتساقط صخور حزن وغضب. يبدأ بهمس طفولي ثم يتعالى بحوار صداقي معاتب حتى يبلغ مداه في نحيب جيّاش يقطع نياط القلب فيبكي (س) ويرتجف وتنهمر دموعه حارة لا تنضب.

ذات مرة خطر في باله بصورة عابرة أن يدعها تتنزه في البستان المحيط بالقصر. أصابته الدهشة وهو يراها تتمايل أمامه بقامة شامخة تهفهف بثوب ليلكي فضفاض وشعر حنّي طويل. بدت حرة منطلقة مثل طير فرَّ من قفصه. راحت تعانق جذوع النخيل والحمضيات.. تمرِّغ كفيها بالأتربة والأطيان..تلاحق الطيور والضفادع. عندما شاهدت دجلة أطلقت صرخة همجية ثم آهات وهمسات وولولات شغف وتعجُّب مثل طفل يكتشف العالم تواً، أو مثل أم تعود إلى أحضان أطفالها بعد غياب طويل. ركضت ورمت نفسها في النهر وراحت تغتسل وترتوي ككائن بدائي يخزِّن عطش قرون. فجأة غطست في الأعماق وغابت. أصاب (س) الهلع فرمى نفسه نحوها وهو يطبش هنا وهناك منادياً إيّاها من دون جدوى. لم يدري كم طال انتظاره وبحثه وهلعه حتى فقد الأمل وأصبح متيقناً أنها قد غرقت. فجأة شاهدها تخرج من بين الدغل وتختفي بين الأحراش مطلقة فحيح وحشي، ثم عادت إليه وقد التفَّت أفعى رقطاء حول ذراعها وهي تداعبها بصداقة وحنان!!

منذ ذلك اليوم دخل (س) مع السيدة الخرساء، في عالم طقوسها البدائية بالتجوال في الطبيعة واكتشاف خباياها. كل عصر كان يقضي معها ساعة أو ساعتين في البساتين وعند ضفاف دجلة. كذلك كل يوم جمعة كان يرحل بها إلى منطقة جديدة من البلاد، يتركها تسير أمامه في البساتين والجبال والبوادي وعلى ضفاف الأنهار. كانت تعرف الدروب والزوايا شبراً شبراً. تتلمس الارض والنباتات والحيوانات بشغف وانبهار كأنها تتبادل معها طاقة الحياة. تقوده إلى مخابئ الأرانب وجحور الثعابين، تلاعب الثعالب والذئاب، بينما العصافير والفخاتي تحّط على كتفيها وكفيها. يفوح منها عبق الأرض بأطيانها ونباتاتها وأحيائها. كالحرباء تتلون حسب المحيط، تارة سمراء كأديم الأرض ومياه النهرين، وتارة خضراء ذهبية كحنطة وشعير. رغم صمتها في ساعات التجوال، إلاّ أن (س) كان يتنصت لصوتها ينبع من خلايا الأرض، من أطيانها ونباتاتها وأحيائها، بل حتى من مسامات بدنه هو وأحشائه. صار مقتنعاً بأن صوتها كان صوت الحياة، بل هي الحياة ذاتها..

                                             *   *   * 

خيل لي، أني بين حين وآخر، كلما توقف ضجيج القصف والطائرات، كنت أسمع من بعيد البعيد أصوات غناء. قلت يقيناً إني أتخيل تحت تأثير حكاية صاحبي. لكني بعد تكرار الأمر، أبَحْتُ لصاحبي بما يدور في خلدي، وأنا أداري بضحكة هازئة معتذراً عن خيالاتي. رغم أن صاحبي قد شاركني السخرية، إلاّ أني لاحظت خلجات مرتبكة بدت على صوته. ثم بعد حين، اعتذر مني قائلاً بأنه ذاهب ليجدد الشاي.

قمت ناظراً من النافذة. بانَ البدر متوهجاً في كبد السماء، والنجوم متناثرة حوله في جميع الأنحاء، فتتخلل تلك الأنوار ظلام البستان. من بين النجوم رأيت نجمة قريبة متوهجة أكثر من غيرها، فخمَّنتُ أنها قد تكون (نجمة الصبح ـ الزهرة) التي كان أبي يستيقظ عليها ليؤدي صلاة الفجر ويرحل إلى عمله.

عبر النخيل وأشجار الحمضيات تمكنت من رؤية شاطئ دجلة، وعلى صفحته تتهادى وديعة مويجات متلألئة بأنوار الكون. بين حين وآخر، كان الفضاء يقدح بنيران القصف المتبادل في جهات غير مرئية، فتتوهج السماء والمياه والبساتين، كما لوكانت تحت تأثير برق خاطف. ومن بعيد البعيد يتهادي صوت غناء نسوي ممزوجاً بالضجيج والانوار والريح.

عاد صاحبي (ص) جالباً من جديد الشاي والمياه المعدنية، مع صحن قيمر (قشطة) محلى بالدبس. وعاد إلى حكايته:

هكذا يا أخي، عبر هذا التجوال بدأ (س) يعيد اكتشاف بلاده، التي كان يتباهى بكتاباته بأنه يعرفها شبراً شبراً. أدرك بأنه في الحقيقة لم يعرف إلاّ مدينته بغداد وبعض المدن الكبرى. قال إنه صار مقتنعاً، بالحقيقة لم يكن يعرف سوى عبودية المدينة بصخبها وضيقها ومجونها وطغيانها الخلاّب الخادع الذي لا يرحم الضعيف وطيِّب القلب. تجواله مع سيدته جعله يكتشف الجانب الخالد والسرمدي من بلاده، أريافها وبواديها وأهوارها وأطيانها وأنهارها وجبالها.

يبدو أن علاقته بسيدته الخرساء لم تفرض تغييراً على سلوكه ونظرته للحياة، فحسب، بل شمل تأثيرها ناحية عميقة لم يتوقع أبداً أن تتغير هكذا فجأة: رجولته!! ذات ليلة استيقظ مرتعباً على حلم كان فيه يضاجع خرساءه. أصابه الحزن لأنه كان متيقناً من اكتشافه كالعادة خيبة أمله. لكن حدثت المفاجأة التي لم يتوقعها أبداً: كانت ذكورته حية!؟ نعم هكذا بدأ يستعيد رجولته ويحس بقدرة فعلية على المعاشرة. اكتشف بأنه فعلاً يشتهي سيدته. بعد تردد طويل قرر ذات ليلة وهو ثمل محشوش أن يعَبِّر لها عن رغبته بها، لكنه سرعان ما تراجع بعد أن رأى منها ذلك الصمت الوقور. حينها قرر أن يهجر أية محاولة معها وأن يشبع شهوته مع غوانيه.

ظلت الأيام والأعوام تمضي والسيد (س) يحاول أن يجمع بين حياة الخطيئة والمجون في بغداد وحياة الطهر والتعبد في (قصر العزلة). كان يصحو في الظهر ويمضي الساعات بالعناية بنفسه في قاعة الرياضة والحمامات والسباحة، وأحياناً التجوال مع خرسائه. عندما يحل الغروب ينزل إلى بغداد ليعيش صخبها ومجونها حتى آخر الليل، ثم يعود قبيل الفجر لكي يتطهر بشجي خرسائه. كل مرة تنتهي من غنائها، كان يجثوا أمامها يشكوا لها عذاباته وحيرته في حياته. هكذا صارت راهبة اعترافاته. يسرد لها كل موبقات ليلته: كم خدع وعذب واغتصب أو حتى قتل أو سبب القتل. وكانت هي لا تبدي غير الصمت وأنظارها متجهة نحو السماء. وتمسح بكفها على رأسه فيحّس بخدر لذيذ يعيد إليه ذكرى أمه تفَلّي له شعره وهو نائم في أحضانها.

لو يشاهده أصحابه وغوانيه في تلك الحالة، لما صدَّقوا أبداً. ها هو (س) الباطش الداعر الذي يتملقه أهل المال والسلطان وتحت سطوته شبكات حسان من كل جنس ولون، يمتلكهن لحظة يشاء كما يمتلك أي سيد جواريه.. هكذا يتحول إلى زاهد متعبد في حضرة خرساء مجهولة التاريخ والهوية. ها هو المتمرد الخليع الناقم على الله والوجود، راح بالتدريج يستحيل إلى إنسان آخر.. بدأ ضميره يصحو وينمو مثل جنين يحيا وينمو في أعماقه. أصبح حاملاً بضمير تعب مشوه، ويا ويله وسواد ليله من ساعة المخاض! كيف له أن يحافظ على جاهِهِ ومالِهِ وسلطانِهِ برفقة ضمير معذب يحرقه على حياة حافلة بكل ما هو منافٍ للضمير.

هذه الحياة المزدوجة لم تكن سهلة أبداً. كان (س) تواقًاً للخلاص من مجونه وضياعه. السمو عن مستنقع الموبقات الذي كان يعيش فيه ويستمد من أقذاره سلطانه وجبروته. كل فجر بعد اعترافه بآثامه، يقسم لها، بأنها كانت ليلة الفسق الأخيرة، وأنه سوف يتخلى عن حياة ملوَّثة، ليمضي عمره معها. يهجر كل شيء ويهيم في البوادي بعيداً عن حضارة خرقاء ببريق وهّاج زائف، زيف حياته كلها. لكن الغروب ما إن يحل ويبدأ الشفق النحاسي يوشح البساتين والحقول ومياه دجلة بحمرة الكآبة والمجون، حتى تتصاعد عواءات مكلوبة من أعماقه تحثه على الثمالة ومناجاة رفاق الخطيئة. حبال طويلة شائكة وقوية متجذرة في أحشائه وعظامه، تشده إلى حياة الليل والتلذذ بمشاهد العذاب السادي المازوشي، والفكاك منها كان يعني موته. فيحتسي كؤوس الخمرة وأنفاس الحشيش ثم ينزل إلى بغداد.

الأعوام تمضي وعذاباته تتفاقم والوطن من حوله يذوي ويحتضر تحت حصار لا يرحم ويغادره خيرة أبنائه، بينما الدولة يستفحل سرطانها ويستولي عليها بالتدريج رجال منحطون تفاقموا مثل جراثيم في أزبال هزائم وخيبات. تضاعف الطلب على الغواني بصورة متسارعة تفوق الحساب. كلما استفحلت أزمة الوطن واقتربت النهاية التي يدركها الجميع، تكاثر الرجال المرتادون لغرف التعذيب. أصبح لدى (س) عشرات الشقق في أنحاء بغداد، بل صارت لديه فروع في جميع المحافظات بما فيها محافظات الشمال المحمية. بسبب الحصار صعب استيراد أدوات التعذيب الجنسي، فتمكن (س) بحكم علاقاته المتشعبة أن يتم تصنيعها وطنياً. كان (س) فخوراً باختراعه طريقة وطنية للمشاركة في رفض التهديدات الأمريكية: أمَرَ برسم الأعلام الامريكية على شراشف المضاجعة وجعل غوانيه يرتدين نفس بدلات ضابطات الجيش الأمريكي، وتعلّمنَ النطق بشتائم وبذاءات أمريكا أثناء حفلات التعذيب. لقد لاقت هذه الطريقة إقبالاً منقطع النظير، حتى قيل إن سيادة ابن الرئيس قد طلب نفس الأجواء للياليه الخاصة.

كم كان (س) يشعر بالأسف لأنه في تلك الظروف لم يترك بلاده ويهاجر مع خرسائه مثل الملايين غيره. بدهائه وماله وعلاقاته ومعرفته بأسرار المعارضين، كان بالإمكان أن يتبوأ منصباً قيادياً في المعارضة ويصبح الآن في صفوة الحكام الجدد. الكثير من زبائنه الأوفياء من كوادر الحزب والدولة والثقافة التحقوا بالمعارضة وعادوا يقودون الدولة الجديدة التي حطمته الآن. أدرك جيداً أن الكثير من قادة النظام الحالي يودُّون القضاء عليه خوفاً من كشفه لأسرارهم.

                                                   *   *   * 

كانت جلستي تسمح لي أن أشاهد النافذة مقابلي، بينما صاحبي (ص) كان ظهره إليها. بدأت ألمح من بعيد، اندلاع نيران كانت تتفاقم في أرجاء البستان. لكنني ولسبب مجهول لا أستطيع تفسيره حتى الآن، بقيت متجمداً في مكاني شاعراً بخدر لذيذ وكأني في عوالم حلم وفقدان. كانت كلمات صاحبي تأتيني على شكل صور كما لو كان هو نفسه جزءاً من فلم يجري أمامي. بدت لي مشاهد النيران وهي تحرق النخيل وأشجار الحمضيات وتشع في أرجاء السماء وفي مياه دجلة، كأنها جزءاً طبيعياً من أحداث تلك الحكاية التي أسمعها وهي تجري أمامي:

كما ترى يا أخي فإن هذه الحالة الاستثنائية كان مقدراً لها أن تنتهي. ذات ليلة عاد (س) إلى قصر العزلة ثملاً منتكساً حائراً تاركاً وراءه بغداد تعيش بانتظار ساعة الصفر للاجتياح الأمريكي. كان الجميع في حالة نفسية تحت الصفر بانتظار هزيمة محتمة، بينما عويل اللذة يتعالى من جميع شقق التعذيب الجنسي في الوطن. كان في حالة إحباط وخيبة وتأنيب ضمير؛ بحيث إنه اقتنع حينها بأن ليس أمامه غير واحد من حلَّين: إما أن يقتل نفسه.. أو يقتل خرساءه.. أو يموت الاثنان معاً!!

في هذه الأثناء هبت عاصفة راحت تثير الضجة في الفضاء وتضرب جدار القصر بقبضات وحشية. سحب (س) مسدسه واتجه مباشرة إلى غرفتها. كانت كعادتها جالسة في العتمة عند النافذة المغلقة تراقب بزوغ الفجر من خلف الزجاج رغم حلكة السماء التي اجتاحتها جحافل غيوم سوداء. كانت الريح تطلق زعيق موحش مثير للشفقة، بينما خرسائه ما زالت في تأملها المناجي. من دون انتظار أو تردد صَوَّبَ مسدسه نحوها واستعد لإطلاق رصاصة الرحمة. في هذه اللحظة ولأول مرة رآها تنظر إليه.. لم يكن يرى في العتمة ملامح وجهها، لكن عينيها كانتا متوهجتين ببريق مثل نجمتين أو جمرتين أو عينَي حيوان مفترس.. حين قدحت البروق توهجت خرسائه فَبَدَتْ مثل إلهة خرافية تمارس سطوتها على الوجود. من خلفها تحولت قامات النخيل إلى أشباح محاربين بسيوف نارية. أصابه الجزع وتجمدت أصابعه على الزناد وشعر بالاختناق كأنه في واحد من كوابيسه التي طالما شاهد فيها أمه ملفعة بالسواد تأتيه وهو مرتعب مختنق. لا يدري كيف وجد نفسه فجأة يلقي بالمسدس على الأرض ويجثو أمامها واضعاً رأسه في حضنها وهو يجهش ببكاء مر.

امتزج صوته بانفجارات رعد وهو يعتذر منها طالباً الغفران.. يعاهدها بأنه سوف لن يخونها أو يتنكر لها أبداً.. منذ هذه الساعة سوف يهجر كل أملاكه وغوانيه وسلطانه ويهرب بها خارج الوطن.. سوف يعيشا وحيدين في جزيرة نائية أو واحة مهجورة..

فجأة اهتز الكون بانفجارات جبارة كأن الأرض كلها قد استحالت إلى حرب شعواء.. إلى بركان ثائر.. كل شيء راح يتداعى.. السماء والأرض والحيطان وحتى بدنه. وعندما أمْسَكَهَا لكي يهرب بها عبر النافذة تفجَّر كيانه وشعر بأنه يغيب عن الوجود.. حتى اللحظات الاخيرة ظل متشبثاً بمعبودته.. ما عادت تهمه حياته أبداً.. هي وحدها، خرسائه وآلهته.. بأنفاسه الاخيرة انبثقت صرخات مخنوقة:

ـ اهربي.. اهربي.. خلصي نفسك.. أرجوك اهربي..

وهو في ضباب فقدان وغبش موت متفاقم رآها تطبع على جبينه قبلة وداع وتشرع بالارتفاع كأن قوة عليا تجذبها نحو الفضاء، فتعلو وتعلو متسامية نحو سماء تنقشع عنها الغيوم..

                                                       *   *   * 

في اللحظة التي بلغ بها صاحبي (ص) جملته الاخيرة، اهتز الكون من حولنا كأن السماء قد سقطت علينا، وتفجرت الأرض في بركان هائل، لتبلع صاحبي وغرفتنا والقصر وكل ما هو مرئي من حولي، ثم أنا كذلك ابتلعني الدمار وغبت عن الوعي وعن الوجود بأكمله؟!

لا أدري كم من الزمن قد مضى عليَّ، عندما فتحت عيني لأجد نفسي تحت الأنقاض وحيداً لا أرى غير خراب القصر وجذوع نخيل وأشجار محترقة ودخان وصمت ينتشر في الأنحاء. خرجت من جحري ورحت أزحف مثل حيوان جريح، كلّي حروق وخدوش ورضوض، وأنا أشعر بعطش قاتل وكأن حرائقاً لا زالت مندلعة في جوفي. بعد جهود عظيمة بلغت أخيراً جرف النهر ورحت أشرب وأشرب. دون أي تفكير ارتميت في قارب مهجور وتركت دجلة يأخذني أينما يشاء. وأنا مستلقٍ على ظهري محدّق إلى السماء تشّع بحمرة فجر متصاعد. ومن بعيد تهيأ لي كأني أسمع شجى غناء نسوي يمسَّ قلبي وَيغَمَرَ روحي بحزن وفرح وسؤال.. 

                      نصــــوص جماليـــــة  

سليم مطر ـ جنيف

هذه النصوص لا تدعي الشعر، بل يمكن اعتبارها(نثر جمالي). وهي جزء من رواية(تاريخ روحي).

 حكايـــــة روحــــي

CARAVAN

كان يا ما كان في سالف الزمان، عندما كان الكبار كبارا والصغار صغارا،
كان كوكبنا من أحلام وبيتنا من همسات،
وأنا طفل أحبوا في أحضان أمي الأرض،
وفي رعاية أبي السماء، ومع إخوة من جبال وغيمات .
ترضعنا الأنهار وتهدهدنا الريح .
ونحن فقراء نعتاش مثل الآخرين على ما تجود به العواصف وتجلبه الطوَفانات .
زادنا لا يتعدى أشعاراً نَسلقها بنيران الملذات،
أما شرابنا فأنوار قلوب تنبض بالأغنيات .
في النهار يجول أبي الأكوان يصطاد النجوم والأقمار،
وفي الليل يأتينا ومن جعبته تهطل الأمطار .
نعم، كان ذلك في زمان سالف بعيد،
عندما كان الكبار دائماً كبارا والصغار دائماً صغارا .

 *   *   *

 

أنــــــــــــــا

285642 10151298684663185 395623471 n - Copie

 

كون، وأفلاكي اسراري
صحراء، وواحاتي أحبائي
بركان، وحممي كلماتي
سماء، ونجومي أفكاري
بحر، وأمواجي أشواقي
حرب، وجيوشي أجزائي
غابة، ووحوشي أمراضي
بلاد، وشعبي أحلامي
سفّاح، وضحاياي شهواتي
معتوه، وجنوني ابداعي
غريب، وضياعي ذكرياتي
رجل، وانوثتي حناني
ماضي، ومستقبلي حاضري
نعم.. أنا.. أنا.... ..
أنــــــــــــــــــا الانســـــــــــــــــــــــان

*   *   *

المحـارب القرطاجـي

5 - Copie

ألقى (هانيبعل) آخر نظرات الوداع نحو مدينته المحترقة..

بينما سفينة الغزاة ترحل به الى منفاه المجهول، اشتدت حرائق روحه وهو يشاهد من بعيد أميرته الحبيبة ونبلاء قرطاجة يستقبلون الغزاة بكل خنوع وذل.

رغماً عنه راحت عيناه تذرفان الدموع وهو يناجي أمواج البحر أن توصل صوته المفعم بالغضب والشوق الى أميرته وبلاده الخؤونة:

ها أنا منكسر وحيد أمضي نهاراتي في لعنتك

وفي ليالي أتوسد نيران حنيني اليك

كم أبغضك، ألعنك، أرفضك..

يا أميرتي.. يا بلادي.. يا معبودتي!

أيتها الغدارة الحقودة الخوؤنة..

أيتها الخلابة الرقيقة الحنونة

لأدعون جميع الآلهة وأمنا المقدسة عوليس

أن تمسح عن أرض قرطاجة كل دروبك

لتبقى وحدها دروب شفاهك على صدري

أن ترسل عفاريت البوادي تقبض روحك

لأدفنك هنا في لب قلبي

أن تعصف رياح العمر تسلبك شبابك

لأمنحك كل ما تبقى من عمري

رحماك يا ثلج جزعي ولهيب جبروتي..

اني امقتك، فابعدي.. ارحلي.. تبددي هناك في البحار..

اني اعبدك، فتعالي.. اقتربي.. طوفي هنا في رحابي..

ويحك..

كم انت ابليسة يا ملاكي

كم انت ملوثة يا قديستي

كم انت آفة يا طفلتي

قولي ماذا تريدي؟

قلبي، عمري، أمجادي الغابرة

خذي ما تشائي وارحلي..

بل خذيني أنا كلي معك.. 

*   *   * 

فــــارس الاكــــــوان

4 - Copie

يا مهرة الخلود، يا طريدة الاكوان، تعالي. منذ أزمان وأزمان وأنا أجول بحثاً عنك، هائماً في براري السماوات.

تخليت عن مملكتي وشتَّت شعبي وسرَّحت جيوشي وأغرَقت مراكبي، لكي نظل هكذا في متاهات الوجود وحيدين أنا وأنت.

لو تعرفي يا مهرتي كم أنا تواق لعواصف جموحك ورعود صهيلك، فأنا متعب حزين وقد أضناني الغياب. فتعالي ياحبيبتي لأضمك الى صدري، العقك جراح عمري وأبث فيك رعشات حلمي..

أو نسيتي؟! أنا فارسك الأول، بكياني هذا علَّمتك الانقياد لنداءات الميلاد، والانطلاق عبر شهوات الحياة. كم مارسنا لعبتنا الوحشية بالغور في الاسرار، تثورين ترفسين تنفرين وأنا متمسك بك وأسناني تقبض على عرفك، جسدي يشرق في جسدك، وروحي تغرب في روحك...

يا مهرتي، هبي أنك لا تخافين، ويحك ألا تشتاقين؟ أنا فارسك الذي جال معك في سوح الغواية، معا احتسينا خمرة الايمان وعاشرنا متسكعي الخلاص. معاً حاربنا جحافل اليأس واقتنصنا غزلان الأمل، ثم اطلقنا العنان ثمالاً طائشين في رياح الحرية، مبللين بأمطار الفرح، منشدين حكايات أسلافنا العشاق!

أعاهدك يا مهرتي هذه المرة سأظل معك الى أبد الآبدين، لنبني وطناً جديداً:

أطفاله نجوم، مدنه شموس، وبحاره أقمار!

*   *   *

جبــــــل الأحــــــلام

19 - Copie

بعد أزمان وأزمان سأبلغ قمة جبل الأحلام

أنظر إلى الحياة تحتي وأناجي السماء: 

إيه يارب، لقد سأمت هذا العالم الساذج

الذي يتشدق بذرى العقل وهو في هاوية الجنون

خذني أيها الحبيب إلى كوكب آخر نظامه بالمقلوب: 

نهاراته أقمار ولياليه شموس

غاباته رمال وبواديه مروج

يعلمني أطفاله ويلاعبني آبائه

تحنوا الي نساؤه ويهابني أسياده

تسافر لي مدنه وتحلم بي أحلامه

حكوماته ضحكات وأمواله كلمات

تتطاير الحمامات من أسلحة جيوشه، وينام الحراس في زنازينه

في الجوع نلتهم نجومه، وفي العطش نشرب أنواره

تسير في روحي قوافله، وتعشعش في قلبي عصافيره

*   *   *

بالامــــــس حلمنــــــــا يا حبيبتـــــــــي..
a-new-heaven-and-a-new-earth

انا وانت روحان تسوحان بين اكوان وشموس
وعندما نتعب نهجع في فضاءات عتمة..
اقدم لك مهرك قلادة شهب واقراط اقمار
نمضي شهر عسلنا في ذرى الوجود
نصلي بحضرة جليل، نصافح ملائكة ونتسامر مع انبياء
نختار وطننا كوكبا ارضه مروج وسماءه انوار
انهاره تراتيل ومخلوقاته طيور
نبني بيتنا بلا ابواب ولا جدار
نتناسل سلالة جديدة بلا خطيئة حواء ولا جريمة قابيل
نصنع حضارة يقودها حالمون، لغتها ضاحكة ودستورها يكتبه اطفال
الموت فيها نوم، واليقظة حياة
سلاحها سلام، ودينها محبة
نعم يا حبيبي.. بالامس حلمنا بهذا..
لنبقى اذن هنا في خلود حلمنا، نحلم ونحلم ونحلم

 

(هذه القصة جزء من الرواية القصصية (تاريـــــخ روحـــــي)
                

               قصة: في البدء كان الحـلم!
سليم مطر ـ جنيف

                                    2 - Copie

الأرض ــ ما قبل الوعي

وعيت نفسي.. أين أنا؟ من أنا؟! من أين أتيت؟

انتبه لنفسي عند فجر، جالس عند نخلة مطلة على شاطئ نهر. في الضفة المقابلة بساتين ومزارع وبواد تسبح في أنوار نحاسية تخترق غيوماً بيضاء. مع تصاعد الأنوار تتلألأ المياه بتوهجات شفق فجري يتمايل مع ريح شمالية ناعسة تبث انتعاشة في بدني وتغرقني في استرخاء وخدر. المشهد ضبابي هلامي مثل حلم.

ـ آدم. اصح يا آدم.. الفجر يهّل والصباح قريب.. اصح يا آدم..

أأسمي آدم؟!

أسمعه يتردد في وجود خال من بشر، بينما أفواج سنونو تشق عباب سماء متجهة جنوباً. غيوم مفعمة بثمالة ليل تترنح في السماء. بجعات بيض ساحرات تطفوا بين مويجات. بطات مع فراخها تستريح على صخور..

أحلام أحلام أحلام.. لا أتذكر من وجودي سوى أحلام. كل كوني أحلام. أحلام تمضي وأحلام تأتي، وأحلام تنتظر بأحلام. من جديد الصوت يصدح في فضاء:

ـ آدم.. آدم.. ما بك يا آدم؟ تعال يا عزيزي تعال.. نكمل سوية ما تبقى من زمان.. سأحكي لك حياتك وتحكي لي حياتي.. تعال يا آدم تعال..

دون أن أفتح عينيي أرى امرأة تنبثق من ماء بجسد حنطي مبلول وشعر حني منثور وقامة باسقة مثل نخلة في صحراء. ترفرف حولها أسراب بجع وبط وسنونو. مياه فضية تجري سواقياً على نهدين وحلمتين نديتين خلف ثوب شفاف بألوان قزحية. من جديد شعَّ صوتها مع أنوار فجر:

ـ انهض يا آدم.. هيا، انفض عنك نوماً ولوماً.. تعال نغتسل بمياه فجر وحياة.. نهار آت وربيع في انتظار.. تعال يا عزيزي تعال..

دون أن أفتح عينَي أراها تقترب وترتسم عليها ابتسامة مفعمة بحنان. أجهل هوية هذه المرأة. هكذا انبثقت فجأة مثل حورية غامضة. لكن وجهها مألوف كأني أعرفها منذ زمان!

ـ من أنت أيتها الكائنة؟

تنفرج شفتيها بكلمات تذوب في زقزقة عصافير تمرق خاطفة. من خلف السراب بدأت تطل أشعة شمس متبرجة مبرقعة بالغيوم. كانت تسطع بخطوط ذهبية نحاسية تخترق النهر وتلتحم بقدمي الغارقتين. فتغور كفي في أطيان ورمال وحصى . أحس بخدر ولا مبالاة:

ـ إني لا أعرفك أيتها الكائنة.. لكني أشعر كأني أنتظرك منذ زمن طويل.. كما ترين فإني متعب حزين أبحث عمن يعينني في غربتي..

بتدرج متصاعد تتثائب الطبيعة من حولي بأغنية فجر ربيعي يعزف ريحاً وإيقاع مويجات وزقزقة عصافير ونقيق بط وضفادع مع ترانيم خافتة بعيدة.

تبتسم الكائنة الأليفة بحنان وقطرات دافئة تنساب من جسدها على وجهي:

ـ انهض وتيقظ يا عزيزي آدم.. انتهى موسم غيابك في عوالم النسيان.. ها هو ربيع ماض يهّل وتتفتح براعم ذكريات..

استغرب كلامها. أتكون ثملة قد هدَّها عالم ليل، فأتت لتمارس معي نزوات عابثة؟

ـ اسمعي يا كائنة، أنا كائن بلا ذكريات. لو كان لي ماض، فقد صار نسياناً.

ـ أنا أعرف حقيقة عذاباتك يا حبيبي.. نيرانك، حطبها ذكريات ودخانها أشواق... تعال يا عزيزي وجرب الترحال في عوالم ماض ما انتهى، إذ لا زال هنا في أعماقي أنا.. وأنت فيه..

راح يثقل عليَّ كلامها العابث الواثق. تخاطبني كأنها حقاً مالكة مصيري:

ـ أيتها المتعالية، إني أجهل مبتغاك.. إن كنت تودين حقاً مساعدتي فاطردي عني أشباح ماضي وخلصيني من غربتي وامنحيني الأمان.

اقتربت مني وفاحت منها رائحة قرنفل وهي تمّسد شعري بحنو وتهكم:

ـ اسمع يا آدم، ليس هنالك فائدة من إصرارك على النسيان.. هل تنكر بأنك أنت نفسك ليس أكثر من ذكريات؟
                                          *   *   *
كم كنت أود حينها أن أنتفض ضد هذه العابثة. لكني رغماً عني كنت مرتخياً ثملاً فاقداً لقواي. لذتُ بالصمت. لم أفهم مقصدها. أستغرب عدم غضبي من عبثها وكأني سبق وأن تعودت عليها وألفت كلامها.

- لا أفهم لغتك الساخرة.. لا أعرفك ولا أقبل تدخلك.. ماضيّ أنا انتهى..  دعيني عن حكاياتك، فأنا تعبان..

لم تدعني أكمل. قاطعتني بصوت هامس يشوبه ضجر:


ـ كفاك عناداً يا آدم.. أنت تؤذي نفسك هكذا وتؤذيني معك. ألم تتعود حتى الآن على فكرة أنك مجبر على الرحيل معي؟ هل عليَّ في كل مرة أن أذكرك بأنك بلا حرية اختيار؛ لأنك بكل بساطة لا تمتلك خياراً آخر غير ما أقرره أنا لك؟ انظر حولك ياعزيزي، انتبه لنفسك ولا تغرق في أحلام...

أردتُ أن أعترض وأحتج.. لكنها ضغطت بكفها الرقيق على فمي وهي تقول:

ـ اعرف يا عزيزي، إني لا أسخر منك أبداً.. اسمع مني الحقيقة التي سبق وأن سمعتها مني مراراً ومراراً.. أعيدها عليك الآن بصراحة واختصار: أنت ياعزيزي غير موجود إلاّ هنا في أعماقي.. ماضيك وحاضرك ومستقبلك وأحلامك كلها محفوظة هنا معي في عالمي.. حياتك حياتي وترحالك ترحالي.. أوَ فهمت؟

رغم أن كلامها بدا مضحكاً وبلا معنى، إلاّ أني في أعماقي أحسسته جاداً وحقيقياً حتى بدت كتلة من دخان تتكوم في صدري. غرقنا بصمت وأنا أفكر بأن أعثر على أي موضوع مهما كان.. فلتتوقف عن مهزلتها.

ـ تذَّكر يا آدم، تذَّكر وإياك أن تنسى.. أنت نفسك ذكرى..

يا إلهي، لماذا ينتابني هذا الإحساس بالرعب؟ كيف تسنى لها أن تؤثر في؟! يكفيني أن أبادلها السخرية أو أتجاهلها حتى ينتهي الأمر. بدأت أشك بأن ما يجرحني في كلامها هو إحساسي بأنه يحتوي على بعض من الحقيقة، أو ربما كل الحقيقة... مستحيل!

أنا على يقين بأني كائن.. وأني موجود هنا.. في هذه الأطيان والأشجار والمياه والسماء والفجر البازغ، فكيف تريد هذه الكائنة أن تقنعني بأني هكذا مجرد أحلام وذكريات؟!

ـ أرجوك كفي عن مزاحك.. ألا ترين كيف أنا حائر وتعبان.. أخبريني، من أنت؟

ـ أوه يا إلهي، متى أتخلص من هذه المشكلة التي مللت تكرارها معك منذ الأزل. اسمع يا آدم.. يا رجلي ويا سيدي، أنت لا يمكنك أن تحيا أو تبقى في أي مكان أو زمان من دوني أنا. حكاية وجودك محض أحلام تستمد حياتها من أحلامي أنا.. أنت رجل أحلامي، وعندما أنام أنا تستيقظ أنت في روحي..

أكررها عليك: أنت بكل بساطة يا عزيزي غير موجود.. نعم غير موجود إلاّ كحلم وتاريخ مخزون هنا في رأسي..انظر حولك.. يا حبيبي.. يا سيدي.. انظر أين أنت..

لاحت قطرات تتوهج في مقلتيها، بينما أصابعها تمَّسد شعري وتهمس في أذني بأغنية عن زمن يمضي وأسراب طيور لن تعود.

فقط في تلك اللحظة، انتبهت إلى غرابة الكون المحيط بنا!

بدا محيط الوجود دائرياً والسماء قبة مقعرة!. ثم شَرَعَتْ كفي مرتعشة تحفر الارض وتكوّر كتل ممزوجة برمل وطين وحصاء وإثل، وعندما وضعت رأسي على صدرها فاح منها عبق أرض وامتلأ فمي بطعم طين. دون أن أفتح عيني وجدت نفسي أهمس لها:

ـ أوه يا حوائي.. يا سيدة وجودي ومالكة روحي.. اعذريني عن النسيان، أعترف لك الآن.. أنت بيتي.. أنت وطني.. أنت حلمي.. أنت ماضيّ وحاضري.. أنت روح حيواتي السابقة واللاحقة.. أنت سر وجودي وخلودي وأحلامي..

رحماك يا سيدتي أعينيني فأنا تعبان ونار حنين تحرق حناياي وما عاد في روحي صبر. أنا سفينة بلا ربّان وسط أمواج عاصفة وغيوم كالحة. يا جليلة، أحلّفك بهذا الوجود، بسماء ونهر ونخيل وفجر ساطع، بعشق مجبول بأعوام، أنيري لي دربي، دلّيني على بر الأمان.. أنا تعبان..

أحس باختلال وزن كأني أعوم على جسدها. الأرض تميد بي كحبات هواء وماء منساب. قوة غامضة تشدني إلى جميع الأنحاء تكاد أن تمزقني إلى أشلاء مثل مركب تعصف به ريح.
حينها وأنا في لجة الضياع أدرك أن الفعل الوحيد الذي يمكنني القيام به؛ لإنقاذ نفسي، أن أفتح عيني.. قررت من دون تردد أن أفتح عينَّي لأشاهد الحقيقة كما هي.. كما هي حتى لو كانت وهماً وحلماً..

عندما فتحتهما لم أرَ، بل عشت كما لم أعش من قبل:

وجدت نفسي أطوف في حوائي. هي المياه الفياضة والكون المتفجر.. كيانها مرسوم بخطوط من أنوار وألوان وانفجارات بركانية.. شعرها شموس ووجهها سماوات ونهديها جبال وجسدها أمواج فضية. من عينيها ينبثق وهج ساطع يغمر الكون فتهتز الارض وتتهشم السماء كمرايا. يفيض النهر بأمواج تمتزج بشظايا أنوار تنتثر في أعالي سماوات. يستحيل الكون إلى احتفالات أسطورية من شلالات بيضاء زرقاء خضراء ذهبية لأنوار ومياه وثلوج وغابات جبلية.

في اللحظات الأخيرة، بينما أنا أغرق وأذوب كثلج في أحضان كونها، وتتفكك أعضائي بإرهاصاتها المتفجرة، وتتبخر أنفاسي بشهقاتها الملتهبة، وتبدو كل حياتي مجرد أحلام بأحلام، ولا شيء فيها غير وهم وخيال.. رغم ذلك، هنالك في أعماقي يقين ما بعده يقين، إنَّ لي ماضٍ من دم وطين، وتاريخ أحمق طويل، ومستقبل سيولد بكل يقين.